Saturday 25/10/2014 Issue 448 السبت 1 ,محرم 1436 العدد
25/10/2014

(ولا) مركب للمفاضلة

ليس إطلاق المفاضلة على المركب (ولا) من وضع النحويين بل هو اسم وضعته؛ لأني لم أجد في وظائف الواو ما أراه ملائمًا لاستعمالها في مثل هذا التركيب «المنيّة ولا الدنيّة» الذي هو عربي أصيل في وضعه متصل في استعماله؛ إذ تقع هذه الواو بين أمرين أحدهما مثبتٌ والآخر منفيٌّ بحرف النفي (لا)، وإن يكن الأمران كلاهما مرغوبًا عنه فهما متفاضلان، كما تفاضل الأمران في قول أبي فراس الحمداني:

وقالَ أصيحابي: الفرارُ أو الردى؟

فقُلتُ: هُمَا أمرَانِ، أحلاهُما مُرُّ

وأمّا قول العرب «المنية ولا الدنية» فجاء عنه في جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري «المثل لأوس بن حارثة... وكانوا يقولون: النار ولا العار»، فلا المنية مرغوب فيها ولا الحياة الدنيّة مرغوب فيها؛ ولكن إن كان لابد فالمنية بشرف أهون من الدنيّة أي الحياة الدنية. وجاء شرحه في مجمع الأمثال «أي أختار المنيةَ على العار ويجوز الرفع أي المنيةُ أحبُّ إلىَّ ولا الدنية أي وليست الدنية مما أحِبُّ وأختار»، وواضح من هذا الشرح تفضيل أمر على أمر على كراهتهما، كما يقال: ويلٌ أهون من ويلين، وكذلك قولهم (النار ولا العار) ليست النار مرادة ولا العار مرادًا؛ ولكن إن كان لابد فالنار على حرها أهون من العار. ومن ذلك «العقاب ولا العتاب»، و»التجلد ولا التلدد»، و»والسيف ولا الحيف»، و»التقلل ولا التوسل». ومن الأمر الذي يستأنس به لدلالة هذا التركيب على المفاضلة كونه سيق مع جمل أخرى تناظره وهي مصوغة على تركيب المفاضلة، جاء في أمالي القالي «المنية ولا الدنية؛ استقبال الموت خير من استدباره؛ الطعن فى ثغر النحور أكرم منه فى الأعجاز والظهور».

نجد هذا التركيب الأصيل متصلًا إلى يومنا هذا؛ فالعامة في الجزيرة تقول «العوض ولا القطيعة»، فالعوض وإن كان مرغوبًا عنه أولى من الخسارة الكاملة بسبب القطيعة من الشيء. ومن أمثالهم «رمح تطعن به ولا رمح توعد به»؛ إذ انتظار المصيبة لها من الهم ما يفوق وقوعها، ويقولون «منّة الله ولا منّة خلقه»، فالمنة تكرهها النفس وتستثقلها، فإن كان لابد فمنة الله الكريم تختار على منّة خلقه، ويقولون «دخانه ولا هبوب شماله» ويقال حين يتحلق القوم على النار الموقدة بحطب قد يكون مبتلًّا فتكثر أدخنته فتؤذي العيون؛ ولكن ذلك أهون من معاناة برد الرياح الشمالية، ويقولون «عتيق الصوف ولا جديد البريسم»، فالجدة ليست هي المعيار بل النوع، فالصوف وإن عتق أنفع من البريسم وإن كان جديدًا، وهي دعوة للتمسك بالقديم النافع، وقالوا «قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق»، وهو مبالغة منهم في التعبير عن أهمية الرزق للإنسان حتى جعل قطعها أشد من قطع الأعناق نفسها. ويقولون «مقابل الجيش ولا مقابل العيش»، وهو مبالغة في بيان أن الشهوة أمام الطعام قوية لا تقاوم حتى إنها لتفوق مقاومة الجيش.

والأمثال والحكم الشعبية التي جاءت في هذا التركيب التفضيلي كثيرة نذكر طائفة منها من غير تفسير وهي واردة في كتاب الأمثال لعبدالكريم الجهيمان رحمه الله، ذكر منها: بعير مكفوف ولا حمار يشوف، جربوع يخصّني ولا أرنب مشروكة، حمارنا ولا حصان الناس، حمار تركبه ولا حصان يركبك، حمارتنا العرجى ولا منّة نخولي، كلب ينبح لك ولا كلب ينبح عليك، وطية الحصان ولا وطية الحمار، سنة الذباب ولا سنة الغراب، ريح الأم ولا لبن المرضعات، ظلم العدا ولا ظلم القرايب، طوّل جدارك ولا تتهم جارك، العلم بالشي ولا الجهل به، اطلع جوعان ولا تطلع عريان، كبر الجهام ولا شمات العدا، ردى العطية ولا جودى العذر، شوي العطا ولا كثير العذر، طق الفقير ولا تشق خْلقه [ثوبه البالي]، جودى السوق ولا جودى البضاعة، القضْب ولا التلمّس، اسأل مجرب ولا تسأل طبيب، ألف حية ولا ها الحية، جال الركية ولا جال ابن غنام، العمش ولا العمى، بصيص العين ولا عماها، قطع الخشوم ولا قطع الرسوم، ظلام الدور ولا ظلام الجحور، أهن فلسك ولا تهن نفسك، ذيخ ركض ولا ذيب ربض، شبر من ذنب الخروف ولا بوع من ذنب الثور، اقعد نايم ولا تقعد متنيوم، سلك واضح ولا شق فاضح، شين مجمل ولا زين مهمل، طهر وليدك بالفاس ولا تحتاج للناس، عشّة تضحك فيها ولا قصر تبكي فيه، زلتك بقدمك ولا زلتك باثمك [بفمك].

وليس كل سياق وردت فيه (ولا) تدل فيه على المفاضلة بل قد تكون الواو للعطف، وقد تكون (لا) ناهية. من ذلك ما ورد في الأمثال: ما له ثاغيه ولا راغيه، سِلب داب يخوف ولا يقرص، يموت المتدين ولا يموت دينه، دشّر الكلب ولا تجدع العصا، احفظ للقوم ولا تصلح لهم، اقضب المفرص ولا تحرص. ولعل القارئ الكريم يعود بما يثري البحث في هذا أو يسدده.

- الرياض