Saturday 29/11/2014 Issue 453 السبت 7 ,صفر 1436 العدد
29/11/2014

القصيدة المعاصرة في الخليج والمتغيرات (3-3)

وقد تمثّل التغير النظري لديهم وما ترتب عليه من حس نقدي –أول ما تمثل- في صعود مبدأ الذاتية والوجدانية في الشعر، المبدأ الذي أصبح التقليد بموجبه انتهاكاً لما جرى تصوره في نظرية التعبير والنقد الرومانسي بـ»الصدق الفني»، أي الصدق في التعبير عن ذات الشاعر، وهو المبدأ الذي اتصل بمفهوم «التجربة» حيث التصور لعلاقة بين الشعور والتعبير، وبين السيري والإبداعي. وكُتُب العواد ومقدماتُه لدواوينه شاهد على ذلك، ومثلها كتاب «المرصاد» الذي ضمَّنه الشاعر إبراهيم هاشم فلالي، مقالاته النقدية الموجَّهة إلى قصائد عدد من الشعراء، وصدرت طبعته الأولى عام 1370هـ - 1951م، فهو يرينا كيف تغيَّر مفهوم الشعر وكيف أصبح هناك ممارسة نقدية تحكي ذلك التغير وتستشرف اكتمالاً من نوع جديد. ونستطيع أن نضم إلى العواد والفلالي ما كتبه حمزة شحاتة في شأن الشعر في «رفات عقل» وكيف يتمثّل شخصية المثقف التي يندرج فيها الشاعر في محاضرته الشهيرة «الرجولة عماد الخلق الفاضل»، ولا ننسى في البحرين الشاعر المثقف إبراهيم العريض (1908-2002م) الذي كانت إجادته للفارسية والإنجليزية مصدر ثراء خصب أفادت منه شاعريته وأفاد منه الوعي النقدي والنظري الذي تبرهن عليه مؤلفاته العديدة.

وتغيُّر المفهوم الشعري باتجاه الذاتية والوجدانية، هو أحد أبرز ما تمخض عنه المذهب الرومانسي نظرياً، الذي عرفنا أبرز شعرائه ونقاده في فرنسا وانجلترا منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم انتقل إلى المجدِّدين في الشعر العربي في العقود الأولى من القرن العشرين. فهو –إذن- ليس ابتداعاً جديداً في منطقة الخليج، كما لم يكن كذلك لدى مدارس الديوان والمهجر وأبولو وأعلام الشعراء في العراق والشام وفلسطين. لكن الجديد هنا وهناك هو توافر الظروف النفسية والثقافية التي تستقبل المفهوم وتتبادل معه التفاعل وإعادة الإنتاج. وهي ظروف دالة على التغير الاجتماعي وعلى تولد حس جديد بالزمن وتوق إلى المستقبل، بقدر ما هي مدلول الرغبة التي ينطوي عليها الشعر في تعبيره عن ذلك، وفي خطوه المختلف والمغاير. وعلى رغم ذلك فلم يمثل هذا المفهوم دلالة مذهبية لدى الشعراء، فقد كان في إنتاجهم شعر أقرب إلى التقليدي في أغراضه وصوره وأشكاله، وشعر اجتماعي ووطني، وما توحَّد من شعر بعض الشعراء في وجهة واحدة بقي نزعة تميزهم ولكنها لا تعبر عن واقعة مذهبية. فلم يكن في مقابلهم من التبلور المذهبي ما يحشدهم إلى جمع وجهتهم وبلورة قواعدهم والمناظرة مع خصومهم، ولهذا دلالته الثقافية على واقع تعليمي وثقافي محدود آنذاك ولم تتبلور فيه منازع اجتماعية وسياسية متعددة بإحالاتها الفلسفية والفكرية. وقد هيمن هذا الواقع الذي تتداخل فيه الوجهتان التقليدية والوجدانية حتى عند الشاعر الواحد، في منطقة الخليج، وقتاً ومساحة ليستا يسيرتين على الفعل الأدبي، في مقابل التطورات الحاسمة التي أحرزتها القصيدة في معظم أجزاء العالم العربي، منذ مدرسة الديوان، باتجاه خصائص فارقة ووجهات متماسكة أو تكاد.

ولقد كان عبد الله عبد الجبار في كتابه المذكور وبعده كتاب عبد الله بن إدريس «شعراء نجد المعاصرون» (1960م) نقلة في الموقف النقدي والمفاهيم النظرية للشعر في منطقة الجزيرة العربية. فهما يبسطان تاريخاً للمنطقة المقصودة بالدراسة عند كل منهما من المنطلق المنهجي السياقي نفسه الذي يرتب الأدب على العوامل الاجتماعية والنفسية والأحداث والمؤثرات الأخرى؛ فيغدو الشعر –على خلاف الرؤية التقليدية- حركة متنوعة ومتغيرة. ويتفرع عن ذلك اتجاههما إلى استخلاص الفروق والأشباه بين الشعراء بما يسمح بتصنيفهم في اتجاهات وتيارات. وهما يلتقيان على قسمة الشعراء إلى ثلاثة أقسام يسميها عبد الجبار «تيارات» ويسميها ابن إدريس «اتجاهات» وهي: الكلاسيكي، والرومانسي، والواقعي. ويبدو الشعور لديهما بضيق هذه الأطر في وصف عبد الجبار لهذا التقسيم بأنه «مبني على أساس تقريبي» وقوله: «إن الحديث عن هذه المذاهب هناك بوصفها تيارات محدَّدة المعالم يبدو أسطورة أو شبه أسطورة». ورجوعه على الكلاسيكية بالتفريع إلى: «كلاسيكية حية» و»بين بين» و»كلاسيكية ميتة»، وفي خروج ابن إدريس إلى أوصاف لفظية أخرى غير المصطلح الأجنبي، مثل وصفه للكلاسيكي بالتقليدي والتعليمي، أو استخدام الوصف الدال على المقاربة والمشابهة وليس التطابق والتماهي، كما في قوله «المشارف على الواقعية». وإلى ذلك فإن التصنيف يحمل رؤية تقويمية تبدو في اتجاههما معاً إلى الغض من شأن الكلاسيكية، في مقابل احتفالهما بما في التيار الرومانسي من تجديد وانفتاح على التجارب العربية والعالمية، ودلالته على ما يجتاح قلوب الشعراء من مطامح عظيمة لم تنفك عن التصادم مع العقبات (التيارات ص ص 74-75). وهو الاتجاه - فيما يقول ابن إدريس- «الأخصب منتجعاً، والأعمق مادة وفكراً، و الأكثر تحمساً للحرية والإنسانية» (شعراء نجد المعاصرون، ص36). وقد يميل ابن إدريس إلى هذا الاتجاه فلا يمحض الواقعي ما يدلل على إيثاره إياه، أما عبد الجبار فإنه يخص التيار الواقعي بمساحة طائلة من الحديث لم نرها في حديثه عن التيارين الكلاسيكي والرومانسي. وتنحصر صفة الرومانسي لديه، في ثنايا وصفه للواقعي، في «الهروب إلى الطبيعة والانطواء أو التقوقع في حدود الذات والتهويم في سماء الأخيلة والأوهام والأحلام واللياذ بالذكريات». وهذا هو ما ينكره التيار الواقعي الذي يحلم بالثورات، وينبع من أحاسيس الشعب، ويصف حال البائسين، ويهدم قماً فاسدة، ويؤمن بالتطور وبالإنسان وبقدرته على التغيير(التيارات، ص305). وهذه لغة حفية بالواقعي عند عبد الله عبد الجبار الذي يمضي حديثه عنه بعد ذلك في أربعة فصول، تعود عليه بالقسمة إلى: الاجتماعي، والثوري، والوطني، والقومي.

ولقد كان التصنيف المذهبي لدى عبد الله عبد الجبار وابن إدريس موضع نقد بعض النقاد بعدهما لأنها وجهة لا تستقيم لها معايير حاسمة في التصنيف، بسبب عدم تقيُّد الشعراء مذهبياً بشكل تام، وبسبب الوجهة إلى التصنيف المذهبي نفسها لأنها تتصور المذاهب الأدبية صناديق مستقلة عن بعضها بالكلية، ومن هنا وقف غير ناقد معلياً صوته باللوم على ورود أسماء بعض الشعراء لديهما في أكثر من صنف، أو ملاحظة صفات شعرية لدى بعض الشعراء تؤهلهم لصنف غير الذي تم قيدهم فيه، أو أن التسمية الأجنبية تحيل على خصائص تزيد على ما يمثله الشعراء الموصوفين بها هنا، أو سياقات اجتماعية ثقافية مغايرة (انظر -مثلاً- د. عبد الله الحامد، نقد على نقد، الرياض، 1408هـ، ص ص 40-88 ود. ناصر بن سعد الرشيد، الخطاب النقدي عند مدرسة التصنيف، النادي الأدبي بالرياض، مجلة قوافل، س1، ع2، رجب 1414هـ، 1994م، ص ص 14-33). ونحن لا نستطيع أن ننفي أن التصنيف هنا هو بحث موجَّه عن خصائص من أجل المطابقة لأطر جاهزة سلفاً، وليس بحثاً حراً من الأصناف الجاهزة مسبقاً يستنتج مستقلاً أطر التصنيف التي يفرضها تشابه الخصائص الشعرية واختلافها. لكننا على رغم ذلك لا نستطيع أن ننفي أن دلالة الاتباع والتقليد في الكلاسيكية والدلالة الوجدانية والفردية في الرومانسية والحفاوة بالموضوعات الاجتماعية وما يتصل بآلام الناس ومظالمهم في الواقعية تصنع بغلبتها في كل اتجاه أطراً كلية للتصنيف، بحيث لا يمكن قصرها على واقعة مذهبية معروفة ومسجَّلة بمصطلحاتها الأوربية.

ولذلك فإن الأهمية التي تمثلها هذه الوجهة هي بروز وجهة تقويمية مذهبية للشعر والشعراء بالمعنى الذي يؤكد دلالة التغير والتجدد ويفيض على المفهوم الشعري بما يوسع في جوانب الاهتمام به ويعددها. وهي وجهة تلمح، بموجب التصنيف نفسه من حيث هو دلالة حركة وتغاير، الحركة والتغير في المجتمع والتاريخ خلف الظاهرة الشعرية، فليس الشعر شكلاً مطلقاً ولا انفصال بينه وبين الواقع. وإلى ذلك فالأصناف المسجلة تحكي وعياً بالحركة الأدبية عربياً وعالمياً، الحركة التي لا تجديد من دون الاحتكاك بها والتفاعل معها. هكذا يصبح أحد منعطفات التغير المهمة في المفهوم الشعري والأدبي في المملكة، هذه الوجهة التصنيفية في التاريخ للشعر والأدب، من حيث هي وعي بسمات الشعر في أشكاله ومضامينه، وعلاقة واصلة وفارقة بين وجهاته من جهة وبينها وبين حركة الواقع ومحتواه وحقائق السياق النفسي والاجتماعي. وقد تطور الشعر في ضوئها في أشكاله ومضامينه، فكانت قصيدة التفعيلة كما كانت قصيدة النثر، وكان التجريب للسيريالية والرمزية، وذلك لأن المشروعية للتغير والتجدد مكفولة نظرياً ونقدياً وواقعياً. وهنا أعلنت المرأة عن وجودها الشعري أيضاً، الوجود الذي كان الاحتفال به أول ما كان طافحاً بالثناء عليها والإطراء لها كما في مدائح العواد مثلاً للشاعرة ثريا قابل، لأنه وجود استثنائي في مجتمع لم يألف بعد المرأة الشاعرة. ولعلنا نتذكر الآن أن حضور اسم المرأة السعودية في قصيدة التفعيلة أكثر منه في القصيدة العمودية، وأن حضورها في الرواية أكثر منه في الشعر. وهذه متغيرات الحدث الأدبي التي ينبغي أن نعيها في ضوء تطور المفاهيم والرؤى الأدبية.

أما المنعطف الأخير في تغير المفهوم الأدبي فهو منعطف الحداثة، فلم يعد الشعر هنا تعبيراً ولا انعكاساً أو تمثيلاً للواقع وإنما خَلْق حر تؤكد فيه الذات المبدعة ابتكارها للغة والتكنيك. ويتمثل فيه موقف الشاعر موقف المثقف الذي يجد في الإبداع صوته المتحرر من أدران الواقع ومصالحه ولغة التكاذب فيه، ورغبته في التمحض الجمالي. وهذا منعطف لم تكن الواقعية حفية به لأنها تفقد فيه سلطانها أي سلطان الواقع ودعواه وتقدُّمه على الوعي. وكان الاتجاه النقدي الشكلي في تجلياته المختلفة هو القاسم المشترك للمفاهيم النظرية المختلفة التي أصبح الأدب يحيل عليها. ويمكن إحالة الحركة النقدية الحديثة في المملكة والخليج وم ا صدر عنها من كتب ومقالات نقدية تجاه الشعر إلى اتجاهات النقد الجديد والأسلوبية والسيميائية. وهنا يتجلى الانفتاح على الثقافة العالمية والثقة بالنفس أكثر من مراحل التجديد السابقة.

- الرياض