Saturday 29/11/2014 Issue 453 السبت 7 ,صفر 1436 العدد

سعد البواردي

أستراحة داخل صومعة الفكر

29/11/2014

حقول النجوم

خالد الخنين

100 صفحة

من القطع المتوسط

الحقل في قاموس اللغة مصطلح مفاده الأرض الثرية بعطائها الغذائي المختلفة الأصناف.. فمن ثمر، إلى شجر، إلى ماء، ونماء يمد طاقتنا بالغذاء الذي لا حياة دونه.. شاعرنا المرهف الحس بعيداً عن اليابسة التي نعيش عليها تطلع إلى النجوم المتناثرة كعقد مضيء في كبد السماء.. أوحت إليه بوميضها حقلاً يزرع الأمل في النفوس الحائرة.. بل في النفوس الجائرة يؤكّد أن لجهام الليل مصابيح لا يقوى الظلام على كتم أنفاسها.. ولا على لجم أجراسها.. مستشهداً في ذلك ببيت لشاعر الفلسفة الرائع إيليا أبو ماضي:

وطن النجوم أنا هنا

حدِّث أتذكر من أنا؟

الحديث هذه المرة لشاعرنا الخنين عن حقل نجومه: ولأن للنجم السماوي نوراً نستشرفه عن بعد.. فإن للوطن نعايشه عن قرب.. ماذا يقول؟

عد بي إلى نجد أرض المجد والكرم

وللحجاز مراح الغد والظفر

عد بي إلى جنة الدنيا، وقبلتها

ومهبط الوحي بالآيات والسور

إنه نور انتماء.. وولاء كما هو أيضاً نور عقيدة وإيمان تسكنه وتملي عليه أن يوقظها كحقل نجوم هي منه، وله، وإليه وعلى ترابه.

أمنية كانت تطغى.. وتلح.. تحققت بعودة شاعرنا حيث تمنى.. (فلوجة) أي بلاد الرافدين كانت العنوان:

يا أنت يا فلوجة بادرة العرب الأبية

تصعدين على الجراح إلى سماء زاهية بتاج الأرجوان

يا أنت يا خنساء هذا العصر

يا كبراً تطاول فوق هامات الزمان

بماذا؟ لأنها وقفت صامدة في وجه المغول الجدد لهذا العصر.. قدمت الشهداء بسخاء من أجل كرامتها أسوة بخنساء العرب الذي ضحت بفلذات أكبادها دون أن تبخل

يا عروس الشعر والشهداء تمشي خلفك الدنيا

وتشتعل البيارق كلما هلّت بساح الموت قبّرت الجنان

جميلة تلك المشاعر.. ولكن يا عزيزي كم (فلوجة) واجهت نفس المصير وما زالت تبحث عن خنساء أخرى؟ إن جنين (فلوجة) فلسطين فلوجة، غزة فلوجة، وطننا العربي والإسلامي أكثر من فلوجة تواجه إعصار الاستكبار.. دمشق التي غنيت لها بعد طول غياب هي أيضاً فلوجة ولكن بالشعاع سوريا التي تعاني من داخلها.. وتحوّلت إلى ما يشبه الأطلال سل عنها (خولة)..!

يا دارة خولة عاشق واعاني

ما كان للأطلال في وجداني

فإلى متى أبقى أسير روابد

مرت وصارت لوحة الأزمان

سؤالك يا عزيزي يفتقر إلى علامتي استفهام (؟) وتعجب (!).

ما غاب سحر الأمس في بالي.. ولا

ألف الغموض من القصيد بياني

وتظل خولة رعشة بجوانحي

ونسيم ليلى غنوة بلساني

واليوم نحيا في عباب عاصف

وكأننا في موجة الطوفان

من حولنا سيل الفواجع موجع

وجراحنا أعتى من البركان

ماذا فعلت الجراح البركانية العاتية؟! إنها تستفحل.. ولكن دون أن تتحرّك.. أن بركانها ترابي ما إن يثور حتى ينقشع ويتلاشى.

شاعرنا أخذنا معه بعيداً عن الأرض المسكونة بأوجاعها وأطماعها.. حط بنا في حقل النجوم:

(طف بي علاك) وقلت أصعد أي شوق في غدي ألقاه؟!

يا من عبرت دروب عمري، ليس لي عمر إليك سواه!!

ضاقت على الروح الفضاءات التي رسمت طريقي والمدى

على بركة الله رحنا في الصعود معه:

هو طائر القلب الذي رام النجوم، وأنت فيها كوكب

وهمست: لو! تنأى بنا خطواتنا نحو الأعالي.. لو

نهاجر في مساءات الندى نحو الذي في الغيب ناء

لو كسرنا كل قيد وانطلقنا، افقنا بستان عشق

وابتسامتنا كواكب في السحر.. وأنا وأنت

على امتداد سمائنا نجم يغيب بمقلتيك وأنت يا عمري قمر

رحلة عشق.. أو لنقل مجازاً حقل نجوم صعدت من الأرض، واستقرت خارج جاذبيتها.. هل إنها عادت؟ لا أدري! ومن حقل فضاء إلى موكب أضاء ببهائه.. إنه موكب بلقيس: حيث اليمن السعيد ماضيا!

يا موكبا ملأ الزمان بهاء

هو ملء ذاكرة الألى يتراءى

بلقيس؟ أم ألق بي غابر

يتجاوز الأطياف والأسماء؟

نيابة عنك أضفت علامتي الاستفهام.

هو ذلك الوقع الشجي بسحره

بلغ الذرا، أو عانق الجوزاء

هذا سليمان النبي وقصرها

والعابرون بذكرها أنباء

والهدهد الآتي بما يوحي لنا

غماً يثير وما يشع نداء

يصفها وهي تمشي في كبرياء وخيلاء نحو عرشها، وقد كشفت عن ساقيها ظناً منها أن ما تحتها ماء وما هو بماء:

شاءت حضارة عزها بإبائها

أكرم بما شادت ذراً وإباء

درجت على درب الخلود ولم تزل

صرحاً يتيه على المدى خيلاء

ها نحن نحفظه باسمها مجد الألى

(بلقيس) عبر الدهر و(الخنساء)

شاعرنا يذكّرنا بدور المرأة التاريخي منذ القدم. كانت صانعة تاريخ لا يُنسى.. في مخيلة الشاعر كل شيء يمكن تطويعه وفق المشهد.. وحسب الحاجة، الجماد ينطق.. والزهور تضحك.. والأخيلة تتحدث.. وهذا من حق فارس رحلتنا وقد أوحى لياسمينا أن يضحك: أنها لغة الموقف:

ضحك الندى من ثغرها ضحكت شفاه الياسمين

ألقت بنظرتها إلى.. فثار في القلب الحنين

لا تسألي من أي دهر رائع أحببت. آه.. أتسألين؟

والعشق فيما بيننا قبل السنين..

من قبل أن يأتي الزمان وتحلمين

حب سبق الزمان بزمان.. لم يحدد لنا شاعرنا المرهف تاريخه.. لأنه لا تاريخ قبل التاريخ..!

له تغريدة مسموعة ومطبوعة في الوجدان مع طائر الحب:

غرِّد، فكم منك الصدى أشجاني

حتى أهاج الشوق في وجداني

ذكرتني أهلي وطيف أحبتي

وسريت بي للربع والخلان

وبعثت في الروح السكينة والأسى

وأثرت دمعي في مدى أجفاني

السكينة يا شاعرنا لا تتوافق والأسى والدموع.. إنها مستحبة.. أفضل أن تقول (وبعثت في الروح الكآبة والأسى).

يبوح لطيره بشكواه.. وماذا يعاني:

يا طائر الحب اشتعلت من الندى

والبعد يكوي، والهوى أدماني

لا شيء ملء الأرض أكثر بهجة

مما يثير نسائم الأوطان..

طف بي ديار أحبتي فإن بها

ذاك المعنى يا رفيق زماني

ويسائل طيره المحلق في فضائه:

هل يا ترى في الأرض مثلي عاشق

خبر الحياة مثيرة الألوان

غرد لتطرب للغنا أحزاننا

لا عيش في الدنيا مع الأحزان

ما كنا سوياً نعرفه أن للطير رسالة حب يحملها.. أو رسالة حرب يحملها بين جناحيه قبل أن توجد وسائل بريدية للرسائل.. أما أن يطوف بعاشق ديار من يهوى فمهمة صعبة على الفهم.. ومهمة مستحيلة لا يقدر طير على القيام بها..

يمكن لطيرك أن يغرّد، أن يشدو، أو يشجو وفق ما يطلب منه وفق منطق الأشياء المتصوَّرة:

غرد، فإن الشدو أجمل نعمة

من ملهم رب كريم حال

شاعرنا شبه نفسه بالطير.. وما هو كالطير حتى ولو حاول.. الطير طليق.. وشاعرنا يشده وثاق البعاد والشوق

أنا ها هنا طير شريد عابر

في كل صدر عاشق تلقاني

يا طائري إن الطريق قصيرة

فاجعل طريقك ثابت الأركان

لا بد أن يكون الطريق قصيراً لا قصيرة.. مع رفيقة دربه كان هذا الخطاب المعبر أمام خطب ناء به كاهله:

خيالي من الحزن الشديد تجمدا

وصوتي نأى عنى وضيعني الصدى

وحولي لظى الصحراء تنفث حرها

تهب غباراً في الحناجر مزبدا..

لحظة قراءتي لهذا الديوان كانت سحب الغبار تغطي السماء وتحجب الرؤية ليت شاعرنا قال عن غباره مجهداً لا مزبداً.. الغبار لا ماء فيه.

غريب أنا بالأمس أسكن غربتي

وها أنذا أقتات حزني تجلدا

قضت أم أولادي مع الصبح نحبها

وسار بها نعش إلى القبر موردا

تهادى عماد البيت وانهد ركنه

أقلّب كفي كيف غالت يد الردى

ورغم الحزن الذي يسكنه تجلد..

وصبراً احتساباً وإيماناً بقضاء الله وقدره

غصصت بدمعي تارة وأذيبه

أداري عن الأحباب دمعاً توقدا

وحولي بنيات من الحزن صوتهم

ألا ليت شعري هل تعود لها الغدا!

يا عزيزتي كلنا أمانة في هذا الكون.. الأجل محتوم.. والنهاية لا راد عنها.. إنها رحلة سفر تؤدي إلى قبر.. رحم الله أم أولادك وعوّضك ثواباً، وخيراً.. فأنت تستحق بإيمانك.. وبنبلك..

(حماة) المدينة السورية الباسلة المفجوعة والموجوعة من نظامها.. كان لشاعرنا زيارة طوَّف من خلالها على مرابعها.. وعلى أهلها الطيبين.. قال عنها:

يمت ربعك مشتاقاً ومزدلفا

ومهجتي في يديك أسقطت كسفا

وجئت أحمل من نجد الهوى قبسا

يحدده حاد عن الصحراء قد هتفا

حماة يا قلعة التاريخ من قِدم

كم روَّعت من عدد سامها خسفا

أبا الفداء، وللأمجاد هامتها

سيف من الحق إما لأن أو تمضيا

أبيات رائعة في توصيفها وتوظيفها للمفردات:

أنتِ الجمال، جمال لا حدود له

على ذراعيك هام الحب، ثم غفا

شلال نهرك أنغام ترددها

تلك النواعير في ليل الهوى ترفا

يا عزيزي.. شلالها شُلّ عن الحركة، ونواعيرها تنوح وتجهش بالبكاء على وقع الصواريخ وصراخ النساء والأطفال من هول المأساة..

أخيراً.. مع شاعرنا المتجلّي خالد الخنين في مقطوعته (الشموس لا تغيب أبداً) يقول:

هي ذي شموس العرم ترحل إنما

هي في صفاف القلب باقية تضيء

حملت أمانيها.. وأحلام الحياة.. وذلك الومض الشغيف

وخطوة خضراء رائعة تجيء

ومشت على الدرب الذي كنا مشيناه صغاراً

ثم تابعنا السير في ذلك الدرب النضير

رحل من رحل.. وبقي من ينتظر دوره في الرحيل، الأمس يأخذنا إلى اليوم.. واليوم يأخذنا إلى الغد، وبين الماضي والحاضر والمستقبل يتحرّك دولاب الحياة تاركاً للماضي ذكرياته.. وللحاضر حركاته، وللمستقبل أمنياته.. إنه يتذكّر صغيره المشتهى.. وعصفورته السمراء، وبيته الذي يسكنه الحزن.. والفراش الذي يتطاير من حوله وقلبه الذي رسم جدرانه حكاية حبه.. أشياء وأشياء احتفظ بها شاعرنا لذاكرته ولذكريات حياته.. وها هو يختم خطابه الشعري قائلاً:

هأنذا أغفو على الأيام منكسراً حزين

ها هم كبروا وغابوا إنه قدر الحياة

هو هكذا يضيء دمي وقع الحنين

لك الشكر يا قائد رحلتنا باقتدار.. أيها العزيز خالد الخنين.

- الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 ـ فاكس 2053338