Saturday 29/11/2014 Issue 453 السبت 7 ,صفر 1436 العدد

نسوة في المدينة

(1)

كأني أراكِ تؤوبين من وطنٍ في المجازِ،

تؤوبين محمومةً بالحنينِ إلى يرقاتٍ من الوجدِ،

تأتين كالوحي يستقرئُ الغيبَ،

حين تقولين:

هذا كتابٌ صفيٌ يقدّسُ سرَّ الخصوبةِ،

خذْ ما تبقى من الوعدِ،

واتركْ سريرتَك الحلمَ للعابرين إلى مقتضى الحالِ،

لا تبتئس بانقطاعِ المسافاتِ بين الهوى والجوى،

علّ بعضاً من النسوةِ المستفيضاتِ في عتباتِ المدينةِ

يمنحن وقتَك ما يشبه السرّ،

هذي شمالك لا لون فيها،

فخذْ ما تيسر من وقتِك الغضِّ،

سرْ بي قليلا إلى ظُلّةٍ نستكنُّ بها حيث لا نستضام من البعدِ،

هذي يمينُك بيضاءُ تقرعُ بابَ الوشاياتِ،

سرْ بي إلى شجرٍ حاسرِ الرأسِ يحمي من القيظِ،

سر بي إلى وطن مشتهى ونديم.

(2).

هي القريةُ الأم،

نمكثُ في حضنها ما نشاءُ،

ونرحلُ عنها بلا رغبةٍ في الرحيلِ،

وتوحي بأن السماءَ البعيدةَ تدنو إلى فلكِ القريةِ المستكينةِ للبوحِ،

نقرأ فيها توجسَ أبنائها المارقين،

عقوقَ الصبايا اللواتي أذبنَ نضَارتَها في المدينةِ حتى نسينَ الوجوهَ،

وأسماءَ أجدادِهنَّ،

ومن كان في خلوةٍ يستبقنَ هجوعَ المساءِ إليه،

نرقُّ لأقراننا العابثين،

نعاتبُ من يستلذ العتابَ،

ونرخي زمامَ الحديثِ مع المتعبين،

ونلمحُ فيها شقاوتَنا في الطفولةِ،

نسترجعُ الرغباتِ الحرام،

ومن كنَّ راودننا خفيةً،

واستملنَ عواطفَنا النرجسيةَ،

نُشرعُ أحلامَنا للأخلاءِ،

نفضي بأسرارنا كبرياءً،

ونسترقُ السمعَ من أجلِ أن تسكنَ فينا وإنْ شردتنا الحياة.

(3).

أرى قرويا تشهّى المدينةَ مذْ عابثته بأضوائها،

فـأحالته سبعَ سنابلَ،

في كلِّ سنبلةٍ وجهُ أنثى،

كثيرٌ نساءُ المدينة،

يمكرنَ أكثرَ من غيرهن،

يعاتبن أكثرَ من غيرهن،

ويعشقن أكثرَ أكثرَ،

يسرقن معنى القصيدةِ من شاعرِ لم يجدْ وطنا ماثلا في كلامِ النساءِ

اللواتي شققن أكفَّ الضراعةِ عن مبتغاهن،

لا يحتكمن إلى الشكِّ،

هن الأنيقات،

يشبهن ما شف من حكمة القروي النبيل.

(4).

أرى قرويا تشهى المدينةَ حتى أفاضت بأسرارها البكر،

أغوته لما تشبثَ بالنسوةِ الـ يحتكمن إلى الغي،

كنَّ نساءُ المدينةِ يحملنَ خبز الصباحِ إلى بعضهن،

يثرثرنَ عن ليلةِ العيدِ،

والغرباءِ الذين أتوا من قرىً أهلها يلبسون التمائم،

والعابرين الأزقة بحثا عن الفضلات من الزعفران،

وعن نسوةٍ لم يجدن كساءَ الشتاء،

وعن بائعاتِ الخضارِ اللواتي قدمن من الريف لا يكترثن بنوع الرداء،

ولا لون وجه العميل،

ولا رتبة العسكري،

ولا ما سينشر في صحف اليوم،

عن عانساتِ المدينةِ..

إذ كيف يصبرنَ …..،

هنّ كثيرٌ نساء المدينة،

يمكرن أكثرَ من غيرهن،

يعاتبن أكثرَ من غيرهن،

ويعشقن أكثرَ أكثرَ،

يقرأن شعرا على ملأ ليس عاداتُهم أن يروا نسوةً حاسراتِ الرؤوسِ..

يغنين ما يستبيح العواطف منه،

ويرقصن في ساحةِ الزارِ،

لا يعتنين بعاداتِ أهل القرى والمدينة مادمن في شهواتِ الفرحْ.

_(5).

هي القرية الآن .. صنو المدينة،

تأخذ منا مفاتيح اسمائنا مذْ تعبنا نرددُها أبجديا،

ووهنَ الحكاية تُروى لنا كي ننامَ جياعا،

ولا نستغيثُ بأحلامنا الطيفِ،

تأخذ منا رسومَ الطفولة من غير وعي الضميرِ المشاكس،

أشواقنا المستعارةَ من وردتين إذْا ما تناقضُ الوانَها ما نرى في الطبيعة،

تأخذُ من حكمةِ المرأةِ السرَّ،

تُوقدُ في حلمنا شبقا لا نُعبّر عنه سوى بالتخيّل،

لا فرق بين النوافذ،

كل النوافذ تفضي الى شفقٍ غامضٍ لا سبيلَ الى فكِّ شفرته،

لا شوارعَ تحملُ اسماءَ ابائنا،

لا الطريقُ السويُّ يؤدي الى جنةٍ عرضُها عينُ أنثى تؤلبُ بعضا على بعضه، ثم تمزجُ بين التناقض عمدا،

وتسكنُ في عينِ من لا تراه جديرا،

وتعرضُ عن جذوةِ الحبِّ كي ينهضَ الهاجسُ المبتغى،

لا تقل إنها النارُ في وسنِ الوقتِ،

لا الماءُ في ذروةِ الموتِ،

لا كائنا في المكانين،

كمْ لي أعدُّ النجومَ هنا أو هناك،

تعبنا،

تعبنا،

حساباتُنا لا تطابقُ أحكامَنا عادةً،

هل نعيدُ تراكيبَ بعضَ القصائدِ

حتى نقرّبُ رقمين صعبين من منتهى ما نريد.

(6).

هنا أو هناك..

نرى علةً في الكتابةِ نمحو بها مشهدَ الرفضِ،

أفعالنا لا تشابهُ نصَّ الروايةِ إلا قليلا من الخبثِ في السردِ،

نمضي الى حالِنا لا نخافُ إذا ما أردنا لهذي الكتابةِ أن تدخل السجنَ دون فتاها لكي يقرأ الواقفون على الجمرِ أسرارَها،

قد تكون سلاما على من تعللَ بالصمت،

نمضي ثقالا الى قبلةِ لا خيارات فيها سوى الصحو من غفوة الموتِ،

إنا سئمنا التوازنَ بين الخطوطِ العريضةِ حين أفقنا،

سئمنا الحديثَ عن الوقتِ يذهبُ في مفرداتِ التشابهِ،

وجهان،

وجهٌ يراك كما أنت في الظلِّ،

مستوعبا حالةَ اللا خلودِ هنا أو هناك،

ووجهٌ يراك نقيضَك،

لا فرق بين الشبيهين،

ملتبسٍ وشفيف.

(7).

كأني أساور بعض نساء ا لمدينة مذ جئتهن صبيا لكي نرسم الحب،

لا أنا من يعبر البحر دون ارتباك النوارس،

لا هن من يستملن الرياح إلى وجهة لا فضاءات للعيش فيها،

ستأخذنا الريح،

أين ستأخذنا الريح؟

لا علم لي أين وجهتها في المدينة،

إنا بدأنا الكلام ولم ننهه،

سوف نمضي بلا رجعة في البكاء،

كأنا جدار يئن على جاره المستكين،

كأنا عبرنا الظلام إلى نقطة البدء،

نعشق لون البدايات،

يسكن فينا كوشم على الكف،

نشقى ويرتاح من لم يكن في الشتات،

لنا وجع في المدينة،

نقبض كالجمر أوجاعنا،

ثم نلجأ في غفلة للجدار لنرسم أشكالنا كالرموز،

يئن الجدار لبعد المسافات بين الأخلاء،

يسجد من رهبة البعد،

لا سر بين الحروف التي كتبت في الجدار القديم،

ولا سر يفضي لفعل الكتابة،

هذي تفاصيل لا ينبغي أن تعيد الحديث إلى بدئه،

ربما الريح جاءت لتقرأ سر الجدار القديم.

(8).

كأني أنا..

أو كأنكِ أنتِ مثارَ السؤالِ عن اللا وجود،

إذا أين حدُّ الأقاويل،

أين مسار الحديث الذي لم يدرْ بيننا..

حيث لا قولَ يحكمُنا في التفاصيل،

لا أنا من يستكينُ إلى صورةٍ في خيالِ القصيدة،

لا أنتِ من يتغشى الكلامَ على غير ما علة في الحديث،

كأنّا بدأنا تعشقنا،

أو كأنّا بدأنا تألهنا،

أو كأنّا بدأنا التوحد في الجسدَ المستحيل.

(9).

أرى...

لا أرى في المدينةِ إلا خطا القروي النبيل،

نساءً يراقصن عشاقَهن،

شيوخا تماهوا مع الوقت يسترجعون الحكايا عن الحب،

بائعَ خبزٍ يداري ندوبا على وجنتيه،

ونادلَ مقهىً يباشرُ مستشرقا لا يبالي بمن حوله،

صبيا يرتبُّ مستودعا للقماش الدمشقي،

أمّاً تداعبُ مولودَها بانتشاءٍ وتضحكُ،

تضحكُ من فرطِ نشوتها،

سلالمَ تفضي إلى هجرةٍ للمكانِ،

مآذنَ تلجأُ للصمتِ،

أرصفةً لا ملامحَ للحبّ فيها،

ميادينَ تخلو من العشبِ،

صورتَها في الجدارِ الموازي لدارِ المسنين،

نقشاً يحاكي امتثالَ الرقيقِ لأسيادهِ،

وقولَ حكيمٍ يخالطه الهزلُ,

نافذة لا ترى العابرين الحفاة.

(10).

أرى..

لا أرى في المدينةِ إلا ملامحَ أمي،

وظلَّ أبي،

وروحي التي سكنتها النساءُ،

فتىً آبقا عن عيونِ الجواسيس،

وجهَ غريبٍ يعانده الحظُّ مثلَك،

بعضا من النسوةِ الحاسراتِ الرؤوسِ،

وضوءَ قناديل من فضةٍ لا تفاصيلَ فيها،

وقوسَ قزحْ.

- أحمد قران الزهراني