Saturday 31/05/2014 Issue 440 السبت 2 ,شعبان 1435 العدد

أحمد الدويحي

قراءة أولية في رواية (2- 2)

31/05/2014

الأضداد!

لفت حوار ثقافي (تلفزيوني) انتباهي في الصالون السردي حول الرواية الصادرة حديثاً في حينه (مصابيح القرى) للروائي خالد المرضي بين الصديقين الروائيين الصديقين مؤلف الرواية خالد المرضي، ومقدم البرنامج الروائي محمد المزيني الذي فاتح خالد بسؤال:

- تتناولون كتاب الجنوب الأساطير الجنوبية بخجلٍ، هل تظن أن السبب يعود إلى أن حضور العالم الغير مرئي (الجن) وما يحملُ من دلالة عن الجهل والتخلف؟

- لا أدري!!

إجابة خالد المرضي، كانت مرفقة بابتسامة ذات معنى، ودهشة .. فجاء السؤال الثاني، أكثر إمعاناً في الغرابة:

- لكنها حضرت بكثافة في الرواية؟

يقصد بلقيس .. وأفرد خالد للحديث عن كيفية توظيف أسطورته في الرواية، فجأة استرعى انتباهي قول المزيني الممزوج بخوف وحذر غير مرئي، وضحكة دعابة ظاهرةً، بقوله منهياً الحوار ساخراً:

- بلاش نصير زي حامد أبو زيد .. وخلينا في سنة الحمد والجراد!

وهنا - يتبدى كشف المستور في التضاد الثقافي، فسنة الحمد والجدري والجراد، أساطير شعبية تاريخية في الذاكرة النجدية، في وسط جزيرة العرب، والدكتور حامد أبو زيد أستاذ الدراسات الإسلامية المصري، كان قد اختار المنفى الإجباري، لينجو من قتل المتشددين الإسلاميين له في وطنه، وفضل أن يعيش لاجئاً في هولندا مع زوجته، بعد ما كفروه قبل أن يعتلوا سدة الحكم في مصر، فالرق والعبودية والحرية والديمقراطية، ليست مجرد مفردات في النص الإبداعي مجانية، طرقها النسيج الكتابي الروائي المحلي في نصوص كثيرة.

كان لا بد توطئة بهذا الحوار لما دار بين روائيين، وهما من كتاب الرواية البارزين، ويعرفان معنى التأويل السردي، لأصل إلى معنى مفاده كنت قد ذكرته في القراءة الأولى، حينما تناولت عنوان الرواية، وهو الأمل أن لا تفسد قراءة خاطئة لمتلقي عادي، يجهل أبسط أساسيات التأويل الروائي لهذه الرواية المبدعة، لأن عنوانها استفزازيا في نظر البعض الذين سيتلقونه بسطحية، ويمكن تسمية روايتين تحققان معنى الأضداد وهما: ( قلب من بنقلان - وبوصلة الجهات ) وقد تناولت بالمعنى الواقعي المجتمعي الطبقي، وروايتنا شرقيون في جنوب الجزيرة العربية، تتجاوز روايتي ( الحزام - وساق الغراب ) بالمفهوم التشريحي، وربما كل الكتابة السردية الجنوبية، إذا أردنا أن ننظر من زاوية التحولات المجتمعية، وإذا أردنا قراءة تأويلية لمنجز إبداعي، يتجاوز القشور والعادات الفلكلورية والدينية، ورصدها في قوالب روائية ينطق بها شخوصها. فالعالم الهامشي المقصي في رواية شرقيون في جنوب الجزيرة العربية، يتجذر بين يدي كاتب مثقف وفيلسوف، يبحث عن إجابة لكل الأسئلة المجتمعية المطروحة، ويجعلنا نقفز معه فوق كثير من الكمائن، والفخاخ السردية والواقعية والتاريخية، ويحيلنا دوماً إلى تأويل ينتهي غالباً إلى الشرق:

- (لم يكن من الممكن أن يجهل الجنوبيون ما يشاع، ومع أنهم خائفون إلا أنه يصعبُ أن يعتقد شخص ما أنهم مستعدون لأن يتخلوا عن الأراضي بسهولة، حتى لو لم تكن في دائرة أملاكهم، كأن تكون حمى القبيلة، ومن المرجح أن يكون مشائخ القبائل هم من بادر واتخذ قرار إهداء الأراضي وتسجيلها باسم حسن أبي ظاهر. لا مبرر لهذا الكرم إلا التقرب من هذا الشرقي). ص73

وحتماً، فللرواية خطابها وجمالياتها وفلسفتها.. وواضح أيضاً من خلال السياق الكتابي أن (فكرة) الرواية، كتبت بعقلٍ نقدي طال كثير من مظاهر الفساد في الجنوب، وبالذات سرقة الأراضي في مجتمع قبلي، يعتبرُ في المعرفة المجتمعية المتوارثة له جيلاً بعد جيل، أن التفريط في الأرض موازياً تماماً للتفريط في الشرف!، ويمكن الاستدلال عن الفكر النقدي، الملازم للكتابة في الحالة السردية بما جاء في الرواية:

(أخذت فكرة الراعي والتابع في الجنوب عدة أشكال، وهي فكرة تختلف عن فكرة العبودية التي ألغيت عام 1964 م، وعن فكرة الرعاية الأقرب إلى أن تكون دينية، واتخذت شكلاً يمكن أن نسميها (المحسوبية)، وقد شكل مفهوم المحسوبية في عهد هذا الشرقي الكبير، جزءاً من مجموع الهرم المتسلسل بدقة، وسلك في أغلب الظروف ما يتناقض مع مفهوم الكفاءة والخبرة وتكافؤ الفرص، وناقض التوقعات الحديثة عن فكرة الإنسانية، وتحول إلى وسيلة للتوظيف في مراتب عالية، وفتح أبواباً لتحسين الوضع المادي، وتمهيد الطريق إلى الدخول في نخبة الشرقيين في الجنوب). ص 22

والرواية التي مهدت في شكل بحثي ذكي، تتلمس في بحثها الدائم ما يدعم (الفكرة) بداية من التعليم الذي يعد أبناء الجنوب ليكونوا جنوداً، والتقاط فوارق دينية مذهبية، تناولتها من قبل روايات أخرى، رصدت خلفياتها (ساق الغراب) وتأويل تأثيراتها، وسمحت لل (شرقي) أن يسخر من بطل روايتنا، ويجعله أضحوكة للأطفال بقوله له: (يا زيدي - هيا قل لهم معك سروال؟ ص 67)، وهو في الحقيقة تضاد ثقافي لا غير كان مفروضا أن يعبر عن تنوع واقعي، فلا أحد ينكر في كل أنحاء الوطن، أن الثقافة المجتمعية في وسط الجزيرة العربية، هي ثقافة منغلقة طاردة عبرّ عنها الحوار التلفزيوني بين الصديقين الروائيين المرضي والمزيني، وتمثلت حول الأساطير في رواية (مصابيح القرى) لخالد المرضي، والفعل الثقافي الإبداعي وبالذات السردي الروائي، يسعى إلى كشف المستور وتعريته. ولكنه لا يقترح الحلول ولا يصف الداء ويحدد الدواء، وروايتنا التي في سياق بحثها لــ ( إدانة ) الشرقي في مجتمع جنوبي قبلي، تفرز لنا مجتمعياً جنوبياً مستلماً وخاضعاً وساذجاً ومستلباً، يتبين منه وجهه القبلي الانتهازي الهزيل، يتمثل في دفعة الجنوبيين المتعاونين الجدد، كرجل الدين الذي يستعير في تأصيله من الدين الحب والولاء لله، وشيخ القبيلة الذي يبادر ويتخذ قرار إهداء الأراضي، ولو كانت حمى القبيلة لتسجيلها في عالم الرواية باسم حسن أبي ظاهر!

كان يمكن هنا - أن أنهي تداعياتي ( يا لبؤس الخيال والواقع!، لم يعد يعرف أيهما أكثر إيلاماً، الخيال أم الواقع؟ ص 78)، والرواية تمارس نقداً للثقافة الشرقية، وسطوة ثقافتها القبلية بدون أن أجد حدوداً للشرق .. ولا حدود أيضاً للطبقية والفساد والمحسوبية في الوطن من شماله إلى جنوبه ومن غربه إلى شرقه، والأخطاء الشائعة تطال بعض بقاعه وشرائح مجتمعاته.

لكن الرواية التي جعلتني أتقاطع معها، وأظلُ في سلسلة من التداعيات، التزمت فيها أن أبقى موازياً بحيادية، وأشبع نهمي كقارئ، يبحث عن أسئلة جمالية، ولغة خطاب روائي، يرتفع عالياً في سقف نص روائي سردي، أجزم أني وجدت عقلية ومنهجية الباحث الرشيد في الشخصية المحورية في الرواية، الراوي الذي يظهر في حالات المثقف علي الشدوي، لكنه لم يكن يسرد لنا سيرة ذاتية، ويلامس السطح برقة وعذوبة، فيفلسف الواقع المتجذر عبر قراءة وثائق تاريخية، ويطرق الواقع بشدة وحرارة، وتنامي الفكرة التي تحشد لها الرواية المشاهد والطاقات، فتتضافر التجربة والمعرفة مع (فوكو!)، ليضع القارئ في جدل، يتراوح بين تناقض ثقافتين جنوبية وشرقية، ويأتي دائماً (التضاد) الثقافي بين ثقافتين قبليتين، لا تقبل المزج ولا المزاح، فتسود إحداهما وتبسط سلطتها الشرقية عبر (الأمني والديني) ممثلة في شخصيتي أبي سليمان وأبي ظاهر، والأخرى مجتمعية ممثلة في (الجنوب) بشرائحه المجتمعية المتعاونين والرافضين، ويتجلى الراوي في أحد وجوه الرواية ومستوياتها، إذ هو الرجل الجديد الذي أصبحه أحمد بن ليلى، الشخصية التي يضفي عليها المؤلف تشكيلا جماليا رائعا، ليحقق قيمة سردية عالية، الشخصية التي نخرت ليلى قلبه، وسوسته حتى اجتمع فيه معاً الحب والرعب، شخصية ضعيفة مستلبة عكس شخصية الراوي الباحث المثقف، ونذهب معه عبر عوالم فنتازية سرية مدهشة، يحمل ظرف ويختفي وندخل معه المقابر، ونعيش مع الحشرات والخيالات والرعب والجنون، ويكشف في حالات الاسترجاع إلى عالم القرية جوانب من السيرة الذاتية، والغريب أن الراوي الباحث الذي أدخل إلى معمله اللغوي وقاموسه الفلسفي، الوثائق التاريخية ليقرأ ويفحص ويحلل، ويتم تأويل الكلام الشعبي (تلمّح) (المدار) فيها، فالرواية عنده في النهاية كنص، يكاد يخلو تماماً من الحوارية المباشرة بين شخوصها بالكلام الشعبي من الثقافتين، ونظل نركض بين السطور في تأويل وتحكيم العقل والمنطق.

- الرياض