Saturday 31/05/2014 Issue 440 السبت 2 ,شعبان 1435 العدد

زيجمونت باومان وفك شفرة الهولوكوست

تُعد مشكلة الهولوكوست من أكثر القضايا حساسية في الطرح والتحليل حسبما يظن الكثيرون من علماء الاجتماع الغربيين، وقد سجنت القضية في الغالب الأعم في سياق التوظيف السياسي لها والذي يخدم المشروع اليهودي من جهة، ويبتز من قاموا بتلك الجريمة من جهة أخرى، ومع مطلع الثمانينيات ظهرت الكثير من الدراسات التي تعتمد على إخراج قضية الهولوكوست من الإطار السياسي الصهيوني والتعامل معها من منظور جديد كلية، فكما تقول «جانينا باومان»: «لقد ولدت الهولوكوست ووقعت في مجتمعنا الغربي العقلاني الحديث، وفي أوج مجد حضارتنا، وفي ذروة إنجازنا الثقافي الإنساني، لذا فهي مشكلة من مشكلات المجتمع الغربي والحضارة الغربية».

وهنا تكمن الرؤية المحورية لكتاب «الحداثة والهولوكوست» لمؤلفة عالم الاجتماع اليهودي زيجمونت باومان الذي يرى أن الهولوكوست هي تعبير عن فكر الإبادة الكامن في مشروع الحداثة الغربي والذي تحوّل من مشروع يستند إلى مركزية الإنسان في الكون إلى مشروع معادٍ للإنسان، فالهولوكوست هي أول مشروع إبادة متكامل يقوم به الإنسان الغربي على أرضه ضد جماعات تشترك معه في اللون والوطن. وما يدعونا للتوقف أمام تلك القضية هو مدى تقبل العقلانية الغربية لقتل هذا العدد الهائل من البشر تحت شعارات مثل النظام والقانون والامتثال للسلطة.

وكل ما سبق يمثّل عدداً من ظواهر المجتمع العقلاني الحديث في الغرب، فمفاهيم مثل حماية النظام وتنفيذ القانون وبيروقراطية السلطة هي مفاهيم تبلورت في عصر التنوير الذي زعم حماية الإنسان وتدعيم مركزه في الكون.. وهنا تبرز المفارقة حين تصطدم عقلانية الحداثة بلا عقلانية أهدافها: فعقلانية الحداثة تتضح من خلال الإجراءات والأدوات التي اتبعتها الدولة الألمانية في التعامل مع المسألة اليهودية، فقد نظرت تلك الدولة - وهي جهاز علماني بامتياز (يُعد إحدي ثمار حركة التنوير الغربية) - إلى جماعات اليهود والغجر والسلافا وغيرهم على أنهم فائض بشري لا نفع منه، لذا حاولت التخلص منهم وكانت الإبادة هي الحل النهائي الذي توصلت إليه (اللا عقلانية في الهدف) والمثير للدهشة هنا مشاركة كافة مؤسسات الدولة في تحقيق هذا الهدف فقد شاركت الجامعات الألمانية والعلماء الألمان ومراكز الأبحاث في إجراء التجارب على تلك الجماعات وكيفية الاستفادة بنفس الطريقة التي تتعامل بها مع أي كتلة مادية صماء ومن المتواتر في هذا السياق هو أن الجنود الألمان كانوا قد تلقوا أوامر بعدم إساءة معاملة الضحايا!.. والأمر الآخر المثير للعجب هو ذلك التجاوب الغريب من أبناء المجتمع الألماني مع الأوامر الصادرة إليهم بقتل الآلاف، فهذان العاملان رؤية الدولة للجماعات اليهودية وتعاون الأفراد العاديين من جهاز الدولة وغيرهم في تنفيذ تلك الجريمة لا يمكن اختزاله في كراهية اليهود، وماذا عن غير اليهود الذين تم التخلص منهم؟!.. كذلك فإن وضعه في إطار السياق السياسي الألماني لا يقدم تفسيراً كافياً عن حقيقة ما حدث وإلا فكيف تفسر رفض الدول الغربية استقبال اليهود ورفض الولايات المتحده لاستقبال اليهود بل وصمتها تجاه تلك الجريمة التي بدأت في 1933 ولم تنته إلا في عام 1945.

يقدم زيجمونت باومان في كتابه سالف الذكر أطروحة جديدة هي مسؤلية المجتمع الغربي والعقل الغربي بل ومشروع الحداثة الغربية بأكمله عن جريمة الإبادة في الهولوكوست فالعقلانية التي دعت لها حركة التنوير وتطورت عبر قرون هي عقلانية محايدة أخلاقياً بمعنى أن تلك العقلانية تعمل بلا ضمير وبلا وازع وهي تستلهم مشروعها من الحياد العلمي الجاف والبارد الذي يرى الإنسان ويتعامل معه وفقاً لرؤية مادية بحتة ومن هنا كانت الأزمة، فالهولوكوست جاءت تعبيراً عن فشل مشروع الحداثة الغربي حيث تماهي العقل الغربي على مستوى الأفراد والمؤسسات مع الأوامر الصادرة إليه من سلطة عليا باقتراف جرائم غير أخلاقية يراها هذا العقل على أنها أمور روتينية لا يسأل هو عنها ولا يشعر بأي تأنيب للضمير عند تنفيذها، فهذا الضابط الألماني في معسكرات الغاز والذي يقوم بقتل عشرات الآلاف يومياً يعود إلى بيته ليداعب زوجته ويمازح أبناءه بل وتشعر معه بأنه مرهف الحس ولا يجرؤ على جرح عصفور، هنا يرفض باومان اختزال قضية المحرقة في ثلة من القادة أو مجرمي الحرب المصابين بهوس التعذيب أو القتل بل يسعى إلى تحليل القضية في إطار التحليل المعرفي الشامل للحضارة الغربية وقد ربط باومان بين اللحظة النازية في أوروبا والمشروع الصهيوني في فلسطين عندما وجد أن الفكر الإبادي والعنصري قائم في كلا النموذجين، ومن هنا كان رفضه للمشروع المعرفي الغربي الذي عرّف اللا أخلاقي بأنه «كل ما يعادي المجتمع» فهذا التعريف يجعل من اللا أخلاقي عملاً نسبياً مبهماً ومتغيراً، يختتم باومان كتابه بأنه على أوروبا إن أرادت النجاة من أخطائها المعرفية أن تعيد النظر في الخطاب السوسيولوجي للمبادئ الأخلاقية.

صدرت ترجمة كتاب «الحداثة والهولوكوست» عن دار نشر مدارات بالقاهرة، وقد جاءت مقدمة المترجم الدكتور حجاج أبو جبر للكتاب وافية وتثير من التساؤلات الكثير، ولا غرو فالمترجم متخصص في كتابات باومان وعبد الوهاب المسيري، وهنا لا بد أن أثني علي جمال الترجمة التي تجعلك تقرأ الكتاب كعمل مؤلف حيث كتبت بلسان عربي فصيح كما أن المترجم قد ترك كثيراً من الهوامش والحواشي التي تضيء النص وتزيل مستغلقاته.

عصام حجازي - القاهرة essamok@hotmail.com