الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 21st February,2005 العدد : 94

الأثنين 12 ,محرم 1426

ذكرى واحترام
يوسف الشيخ يعقوب
احتفظ الأستاذ (عبدالله الشيخ علي الجشي) بالكثير من الذكرى والاحترام، فقد جمعتنا إحدى الرحلات والصدف القاسية، كدرس قاس لا أعتقد أو أظن أن من السهل نسيانها، فقد كنا في ضيافة (أبو سعد)، وأبو سعد هذا لا علاقة له بسعد الذي وصف الشاعر أحاديثه الشيقة:
وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني
شجوناً فزدني من حديثك يا سعد
وأبو سعد هذا وصفه أحد المازحين سامحه الله أنه تحدر من نظرية دارون الخرافية التي لا نؤمن بها، ولا زلت أتصور جلوس صاحبنا (أبو سعد) هذا على عتبة الباب القديم بصريره المزعج والموحش، وهو يحدثنا عما يشبه أسطورة عاصرها بعد أن تجاوز التسعين، وكانت ظلمة المكان تكاد أن تحجب عنا صورته الطريفة الأسطورية، حاملاً عصاه الثقيلة، التي لا تشبه (العوجية)، بل هي أقرب إلى المشعاب، وربما إنه كان في الماضي يهش بها على غنمه، ولكن تغيرت الأيام ساعة ما كان تحت قبضة شخصيات صلبة وقاسية، ربما يغلب عليها روح التخلف والجهل. دفعت بهم الأخطاء في ذلك المكان الموحش، وكان حديث (أبو سعد) حول خطأ وقع فيه نتيجة الإهمال، فوقع في تهمة التفريط، وخسر ساقه بضربة شجاعة، وكاد أن يفقد حياته، ولكن عزيمته مكنته من أن يسترد ما فقده، ويعود تحت قبضته المضرية ليحقق نصراً من الانتقام.
وفي اعتقادي أنها قصة مبالغ فيها، وأبعد عن الصدق، وأقرب إلى الوهم والخيال. بما يصوغه العسس والحراس من كذبة بلقاء تبحث عن الشهرة، وليوهمنا بقوة شخصيته الخرافية، كنوع من النفخة الخادعة. لقد عادت بي الذاكرة عن تلك الليلة الأسطورية الرهيبة، بظلامها الدامس المخيف ساعة ما كان أحدنا يمد يده فلا يكاد يراها، وسمعنا أصواتاً مروعة تشبه قصف الرعود في ليلة عذراء، وكاد صوتها أن يمزق الظلام بعنفه بعد أن طرد النوم عن أجفاننا، وبعد أن أشرق الفجر بنوره سأله أحد الزملاء عن تلك الأصوات المرعبة، فرد عليه بكل برودة وعدم اكتراث قائلاً: (يا ولدي، إن حذائي انقطعت قذته) فقمت برقعها مستعملاً المطرقة والمسمار).
وخلال الفترة الطويلة التي قضيناها في تلك الضيافة شعرنا بتغيرات من المعاملة الحسنة لنا من صاحبنا (أبو سعد)، انقلبت من الشدة والعنف إلى الهدوء والتسامح، فعندما طالت الأيام، طالت معها شعور رؤوسنا، حتى أنه أطلق عليَّ لقب (أبو شوشة) كنوع من المزاح، ورق لنا عندما قدم لنا وأتى لنا بمقص رهيب طوله نصف متر، وربما أنه كان يقص به شعر غنمه، أو أشياء أخرى، لكننا شكرناه على ذلك الكرم، وحتى شعورنا شكرت له ذلك الشعور والإحساس، وقد فسر أحدنا ذلك التغير، عندما شاهد تمسكنا بأداء فروض الصلاة، وصيام شهر رمضان، وتأدية صلاة التراويح، وكان إمامنا في أداء الواجبات الدينية أخي (أحمد) رحمه الله، وخلال تلك الأيام الصعبة والحزينة، فارقنا أحد الزملاء، وقمنا بالصلاة على جنازته، وفي تلك المناسبة، نظمت مرثية صورت مشاعري لذلك الإنسان ومع كل ما قاسيناه فإن عزيمتنا وقوة إيماننا بالله لم تضعف، ولم تهن، فقد استطعنا التغلب على الكثير من الأوهام والملل لوجود زملاء معنا، يقدمون لنا في كل ليلة أحاديث شجية، وبرامج ترفيهية تخفف عنا الوحشة، من القصص والمحاضرات، والأحاديث والأغاني، واكتشفنا في هذه المجموعة من يجيد تقليد كبار الفنانين، ومن يقرأ القرآن الكريم بصوت خاشع، وكان أبو قطيف يتحفنا بقص ملخص لبعض مسرحيات شكسبير الكاتب البريطاني المشهور، وبذلك فقد استطعنا أن نهزم وحشة الظلام، والبعد عن الأهل والخلان، وعوضنا ذلك عما يدور حول العالم من تلك البرامج الشيقة.. وفي أحد الأيام وأنا أتوسد حذائي، وأفترش تراباً خشناً يدمي الجلد من خشونته، وخلال تلك اللحظة مرت علينا مجموعة من طيور القطا تردد أغاريدها الشجية، وهي في طريقها فتذكرت قول الشاعر العربي:
أطير القطا هل من يعير جناحه
لعلي إلى من قد هويت أطير
ومن الصدف الجميلة التي لا زلت أذكرها عندما وصلني خبر مفرح لأول مولود لي أطلق عليه اسم (سمير)، ويالها من فرحة. حمدت الله على ذلك، وفي آخر يوم من توديع ذلك المكان الأسطوري فاجأنا الخبر المفرح بالخلاص من ذلك المكان، وذكرني قول الشاعر:
ولرب ضائقة يضيق بها الفتى
ذرعاً، وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت وكنت أظنها لا تفرج
وقبل الخروج من ذلك المكان قمت وبعض الإخوة بنقش كلمات للذكرى على ذلك الجدار، واخترت أبياتاً لأحد الشعراء يقول فيها:
سلام على مثقل بالحديد
ويشمخ كالقائد الظافر
كأن القيود على معصميه
مفاتيح مستقبل زاهر
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved