الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 21st February,2005 العدد : 94

الأثنين 12 ,محرم 1426

تيار الحداثة والنقد غير المبرر
د. سلطان سعد القحطاني
إن من اصعب الامور عدم معرفة المصطلح في اي علم كان، واصعب من ذلك التعالم بمعرفة كل شيء، وبالتالي تختلط الاوراق بين من يدري ومن لا يدري، والضحية المتلقي البسيط، الغيور على دينه وثقافته العربية. وتكمن الخطورة في تنمية ثقافة مغلوطة بين الاجيال لا تقبل المناقشة والتفكير الحر. فالمصطلح يستخدم فيما يدل عليه وما لايدل عليه، ومن هنا تحدث الذبذبة الفكرية، أيهما الصحيح! ونحن نعرف ان مصطلحات (الليبرالية والعلمانية والرجعية) وغيرها، مصطلحات منحوتة حسب التصور الخاص، عند هذه الفئة. فقد تطلق على محافظ بمجرد كلمة قالها، سواء قصدها أو لم يقصدها. وقضية الحداثة قضية قديمة في التراث العربي والعالمي، وليست خاصة ببلد أو بجيل معين، ولكن من المؤكد أنها تظهر في زمن التقدم الفكري ضد الجمود، لكنها لا تؤخذ بالفعل المطلق، فيحسب عليها كل غث وسمين. وما يصلنا من التراث يكون سمينه أكثر من غثه، بسبب التنقيح والمراجعة، والعكس صحيح فيما نعاصره، ولم يغربل بعد. فبالرغم من وجود الحداثة في العصر العباسي، إلا انها لم تصطدم بالاصالة، كما هو اليوم في العالم الثالث. فما هو حداثة اليوم سيكون تراثا في الغد، أو قل سيكون تقليدا. وإذا عدنا الى ما كان يسمى حداثة في التراث العربي وجدناه نوعاً من الغموض، كحداثة شيء لم يعرف من قبل، كتجربة ذاتية وجد المبدع صلاحيتها للنص، قبل غيره من المبدعين والمتلقين، وبالتالي تأتي المفردة غريبة على النصوص السابقة، فتثير جدلاً. ومن المفردات ما هو خامل في زمن ونشط في زمن آخر. فخمول المفردات العربية التي وردت في الشعر الجاهلي والإسلامي والاموي والعباسي، ولا تستعمل اليوم، بسبب غموضها، وحتى اللفظ القرآني احتاج الى تفسير، حتى عند العرب، فالبحتري استعمل مفردة (النيروز) الاعجمية، التي تعنى رأس السنة الفارسية، في قصيدته (الربيع) واعتبرت حداثة في زمنها، لان المفردات العربية ليست عاجزة عن التعبير في هذا الصدد. وابو تمام حير النقاد في فهم ما يعني، وجاءت الفاظه غامضة في مطلع قصيدته:
وهن عوادي يوسف وصواحبه
فعزما فقدما ادرك السؤل طالبه
وقد حمل ذلك أبا سعيد البصير وابا العميثل الاعرابي ان يهتفا به قائلين: لم لا تقول ما يفهم؟
فرد قائلا: ولما لا تفهمون ما أقول!! وبين السؤال والجواب تقف المعادلة الصعبة للفهم، السائل يستفسر والمجيب يستنكر، ولم يفسد للود قضية، بقي ابو تمام، بل بقي نقده وشعره الى اليوم، لان الناس بحاجة الى جديده، كما انهم بحاجة الى رأي النقاد الذين استعصى عليهم فك مغاليق مفرداته. فالقضية قضية صراع بين قديم معروف وجديد مخيف، لكنه جديد بني على ركائز صحيحة نابعة من ابداع المبدع وبيئته، وليست مستوردة مستهلكة مقلدة للآخر، كما هي اليوم، في الكثير من النتاج العربي.
لقد اكتشف النقاد العرب منذ القدم حادثة امرئ القيس في تقطيع القصيدة، وهو أول من برع في هذا الفن، وزادت الدهشة عندما اكتشف علم التشريح براعة طرفة بن العبد في وصف اعضاء الناقة، وانه سبق العلماء منذ مئات السنين الى معرفة هذا العلم في ابداع شعري منظم. والغموض مصطلح يقبل الرفض والقبول، ايجابي وسلبي. وقد انتبه الى ذلك النقاد العرب القدامى، وفصلوا فيه القول، واستقبحوا المكشوف من الكلام. وما علم التورية والتلحيف عند العرب إلا نوع من الغموض وايهام المتلقي وحث ذهنه على اكتشاف المعنى الباطني للمفردة. ويرى عبدالقاهر الجرجاني ان النفس البشرية بطبيعتها مولعة بالكشف عن المغطى الذي لا ينال إلا بعد الطلب والمكابدة، ويمثل لهذا الضرب من المعاني كما يقول (الجوهر في الصدف لا يبرز لك إلا عندما تشقه عنه، وبالعزيز المحجب لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه)، ويؤكد النقد الحديث صحة ما ذهب إليه عبدالقاهر، حين يرى ان الغموض الايجابي أصيل في شعرية الشعر. وان النص الجيد نص إشكالي يحرض الذهن ويتحداه ويدفعه الى التأمل ويثير فيه الرغبة في الكشف عما خفي.. وما يحسب اليوم من الغموض، في الكثير من النصوص التي درست من قبل الكثير من النقاد، واعتبروها حداثية، لم تتعد التقليد لمن سبقهم من الشعراء، فقد ذكر عبدالحميد زراقط، في كتابه (الحداثة في النقد الادبي المعاصر) عندما اورد بعضا من قصائد يوسف الخال، في مجموعته الشعرية (البئر المهجورة) ونقد ميخائيل نعيمة لهذا النمط التقليدي الغربي، مستغفراً عزرا باوند آثامه الى الشعر:
(سألناك ورقة تبين فإنا عراة عراة اثمنا الى الشعر فاغر لنا ورد إلينا الحياة).
فيتساءل ميخائيل نعيمة :( من هو عزا باوند كي تستغفره آثامك، ومن هو كي يرد اليك والى رفاقك الحياة؟ العلة رب الشعر الذي خلت من قبله ومن بعده الارباب..؟ جميل ان تجل من تعتبره فوقك، وقبيح ان تستهين بنفسك) ويضيف نعيمة:( انما الازياء البيانية ظلال لا تستقر على حال، والمستقر هو الإنسان وحاجته الى التعبير عن كيانه) ومن عزا باوند الى سيزيف، يتنقل يوسف الخال يشكو حاله وحال شعره، حيث يقول:( اصغي الى سيزيف يمشي على البحار يا اختي) ويواجه نقداً من الكثير من نقاد الادب العربي الحديث، فيقول كمال خير بك، وهو يدرس قصيدته (سيزيف) بشيء من السخرية:( بطل سيزيف دخيلا ليس فقط كدال، بل ايضا كدلالة، اذ فضلا عن ان سيزيف غير معروف في التراث العربي، فإن فرصة الإقرار به ضعيفة بدورها، الذهنية العربية التي تلخص تفاؤليتها المطلقة، ان لم نقل نزعتها القدرية، في مقولة من طراز:( الصبر مفتاح الفرج) سيكون من الصعب عليها ان تدرك مثل هذه العبثية الابدية للمصير السيزيفي.. ان هذه العبثية من الصعب على الإنسان العربي إدراكها ونجد ان محنة النبي ايوب اشد من محنة سيزيف عند اليونانيين، وقد اشبعوها شعراً، وجاء الخال يقلدهم، ويدعي ان هذا ابداع جديد، وقول كمال خير بك قول في منتهي الصراحة والوضوح حول هذه العبثيات التي لم تنته في عالمنا العربي.
لقد اعتبر البعض من النقاد ان هذا العبث كما يقول عنه كمال بك شعر يعبر عن هموم الامة العربية، وانه حداثة، وقد قدمنا للحداثة، على انها الشيء الجديد المعبر عن معنى من المعاني، بصرف النظر عن وضوحه من غموضه، وسنكمل الحديث في الحقة القادمة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved