الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 21st February,2005 العدد : 94

الأثنين 12 ,محرم 1426

استراحة داخل صومعة الفكر
مع الورد والقمر علي جعفر آل إبراهيم
سعد البواردي
حين يقيض لأحدنا الاختيار فإنه لن يجد بديلا تطيب له النفس.. وتأنس له الروح أجمل من أريج الورد المتفتح.. وضوء القمر المنساب من على طارداً عتمة الظلام ووحشة الليل..
وشاعرنا اختار العطر والسحر معاً.. اختارهما عنوانا لديوانه.. فهل حالفه التوفيق في ريشة بيانه..؟ هذا ما ننتظره جميعا ونحن نلاحق محطات شعره.. ودفقات شعوره!
(شفاء صادي) أول قصائده.. والظمأ يأخذ عافيته من الري كالجوع يأخذ طاقته من الغذاء.. وكالداء ينال عافيته من الدواء.. والحب ينال طعمه من الوصال:
أجاهد نفسي لا تبوح بما ألقى
ولكن هذا الحب علمني الصدقا
نحت هممي عمياء للحب واديا
وقد سمعت لكنها ترغب العمقا
وما أبصرت لما غدت في شباكه
يخالط سيل الماء سيلا من الفرقى
من قال لشاعرنا أن الحب نزهة؟ وأن مذاقه حلو لا تعتريه مرارة وحرارة انتظار؟ المحبون بقدر إحساسهم بالحب يأتي قلقهم عليه.. ومعاناتهم من أجله.. ألم يقل شاعرنا القديم بيتا شافيا كافيا أشبه بالوصفة:
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَّبِرَا..
والحب مجد روح وعاطفة تكتنفه جروح، وعاصفة لابد من تحملها:
لقد كنتُ حرا أسلك الأرض أيها
وها أنا ذا أهوى ما أكبر الفرقا
القصيدة معبرة مشحونة بالصدق والتضحية والفدائية والانقياد الطوعي:
وسلمت عمري كفه ضاحك الرؤى
ليودعني ما شاء منه، وما أبقى
(أنتِ أغلى هدية) هكذا صاغها أبياتا مليئة بالوجد والهيام
لم أذق ساعة بعمري هَمُّ
اليتم والدهر مسني وأراني
يا نميري لقد بقيتُ على امتع
آه.. بما تغيب أعاني..
أرأيتم كيف أمتعته آهته رغم أنها حرى وموجعة؟ إنه الحب الذي يستغرق من عذوبته له عذاباته دون أن يتراجع.. إنه يوم لا ينساه.. أسال حبر قلمه ليرصده وقد أوحى له أقسى من هَمِّ اليتم:
كان يوما كتبت فيه غنائي
إنني لا أراك في كل آن..
مثلنا العربي يقول:( زر غبا تزدد حبا).. من يدري لو أن الرؤية تحققت في كل آن لأسلمته إلى الملل.!
(نفثه حارقة).. لها حرارة أمل. ومرارة ألم..
لا تسألني إن رميتُ بما
بين المخالب.. نابض يبلى
بعد أذاب نواته فغدا
ميعا يسح، ويحرق الوبلا
يا ليت مالكه يجود به
أنا يخفف ورده القتلا
إن كان طفلا حين أطلبه
قمري.. فتوقي لم يعد طفلا
دع طفلك يكبر.. ودع توقك ينتظر.. لابد من الصبر.. الطفل صغير على الحب لهذا جاء صوته قاسيا، لأن نضج تحنانه لم يكتمل بعد، إن الطيور المهاجرة إلى البعيد غنى لها أكثر من شاعر وأكثر من ناثر لأنها رمز غربة للإنسان نفسه حين تضيق عليه الأرض بما رحبت:
تباعد الطير بلا حدود
عن غابة كانت له المهد
وكانت موطنا يعرفها بوسعها
وظلها الممدود
أراد أن يقول لنا: إن الغربة ليست غربة جفاف طبيعة بل جفاف طباع وانطباع.. فالطيور تهاجر من الشمال إلى الجنوب حيث الدفء تاركة خلفها الحقول.. والمروج الخضراء.. والغابات.. والبحيرات.. والأنهر.. لأنها تبحث عن شمس لا تحجبها الغيوم، وعن دفء لا تعصف به رياح الشتاء المثلجة..
من مقطوعات شاعرنا علي جعفر المرحة تلك التي تتحدث عن الصلعة:
ترنح المضحاك إذ جاءني
فاستقبلته درة تلمع
حيى، وحيت قبله ضحكة
فقال: كيف الحال يا أصلع؟
كيف غدا البطيخ في يومنا
والقرع الموفور، والدعدع
ثلاثتها معروفة بالصلع الذي يشبه صلعة صاحبنا.. بما أجاب؟!
فقلت يا ساحر ان الذي
أنار عينيك هو الأمنع
خصالها الجم كنوز الضحى
ما حجب الشمس ولا المطلع
الشمس يا صديقي مؤنثة.. وعجب تعود لمذكر.. حسنا لو قلت: ما حجبت شمس ولا المطلع.. ثم إن علامات الاستفهام في بيت شعرك الثالث
ومن صلعة الرأس إلى طلعة شمس الوطن الذي احتفى بها، واحتمى تحت أشعتها المتوهجة: أليست إشراقة وطن؟
وطني كم ردديت برد سحاح
منك يشتاقه الندى معروفا
أليست كلمة (مغروفا) أقرب الى المعروف؟ وكلاهما صحيح
تنثني تحته رؤى وأماني
وتغدو منابعا وقطوفا
انت حرف من الجلال عليه
رسم الكون للعلاء حروفا
ليس وحده المتيم بحب وطنه.. عمري يشاركه هذا الحب.. وهذا الالتصاق بترابه لو انه تردد:
لو ترددت أن أشركك عمري
لهفا طائراً إليك شغوفا
(الأمل الموقد) ماذا قال شاعرنا علي جعفر آل إبراهيم؟: لقد سأل نديم حياته الذي. سأل الزمان عن الخلق! وعن الحب.
وأشياء أخرى تنضوي تحت مظلة الأمل.. إلا أنه ما لبث أن تداعت صور أخرى مغايرة لأمله:
فيا للقساة القلوب
من ناصبين العدا
أما راعهم ذلكم
وقد هده ما شيدا
لأنهم أعداء أمل لا شيء يريعهم.. إنهم يرقصون أمام مشهد الأطلال وشلالات الدماء لأنهم خصوم حياة، ولهذا تحدث وأفاض الحديث عن توالع أعداء الحياة:
لم تزل تضحك المجازر ما انهك
قلب السماح هم وعصف
فالدم البوسني ما جف أو غار
ولا نزفة لقانا تجف..
وثرى القدس حين أسكته الخذ
لان من ظن أنه سيكف!؟
ويلتفت إلى الكعبة الحرام عنوان مقطوعته مخاطبا:
كعبة البيت جللي العالم البائس
نوراً.. سقاه مزن وعطف
فخرِّي زمزم الحياة أناشيد
فيحيا أمن.. ويدحر خوف
وعن الطفل البوسني رسم لنا صورة شعرية أخاذة.. ومعبرة:
ألق في جماله خلل
ماكث لا يشوبها خلل
رسم الحزن شكل
وجنته فمحياه بالأسى جدل
في حشاه البحر مسحرة
في لماه من الحشا بلل
وكأنما يهدهده وهو يبكي حرقة من بلواه:
أيها الطفل كُف عن حُرق
شوه الأرض لفحها الازل
ويعود إلى مساءلة ضميره:
كيف أسلو وهذه كبدي
بضرام الحروب تشتكل
العالم يا صديقي لا ذاكرة له.. مأساة البوسنة والهرسك النسيان.. فلا القتلى الأبرياء اقتص لهم.. ولا المشردين عادوا.. ولا الأطفال البوسنيون المسلمون الذي نصِّروا أو هُوِّدوا بعد بيعهم يعرفون شيئا عن أصلهم وفصلهم..
(عبوس لحظة) أمر هين يمكن تجاوزه بلحظة.. الاشكالية عبوس عمر يطعم الحزن.. ويشرب المر.. كانت لحظة فراق أشبه بسحابة صيف مسرعة:
أنا أدري بأنها
صدة منك تعرف
كعماء مرورها
تتولى، وتصرف
إنما العمر ساعة
كلما اسود تقصف
كيف يفنى اوانها
حين يحلوه موقف
يفنى الأوان عند جلاء الموقف.. وينكشف المستور.. وتبقى الحقيقة عارية لا لبس فيها ولا إيهام..
شاعرنا اجتماعي يأنس حتى للنحل الذي يلدغ ولكنه يهب العسل
قمري شع في عيوني سناه
ساعة إذ ذكرته فبدا
يا بروحي قد أذميت شفتاه
ولقد سال في الرحيق ندى
هالني جرحه.. وأحزنني
من عثا في خليتي شرها؟!
أيد عابثة امتدت إلى خلية نحلة.. ولأنه لا يعرفها استنطق النحلة.. هكذا كان يتصور، ولهول المفاجأة نطقت النحلة مبددة الشك باليقين كما لو كانت أمام سيدنا سليمان إلى جوار الهدهد والحمام..
قالت النحلة الطموح.. أنا
بحياتي من اشتهى النحل منه
عسلا فاهتدى لرشف لماه
قدر الله رزقه فهدى..
للمرة الأولى أسمع أن نحلة تحدثت إلى إنسان منذ عهد النبي سليمان بن داود.. خيال اللامعقول..!
لعل ما بعد هذا الخيال الضارب في متاهات التصور نجد ما هو (أحلى، وأغلى) هذا ما حدده لنا عنوان لقصيدة جديدة.
يا ورد تعدو فوق أرواحنا
ووهمنا، وطواك هذا التراب
طلعت جذلانا فلم تتضح
رواجح الالباب الا سراب
ما أنت الا سائح ماهر
يقتنص الروح وراء الحجاب
ويذبح الظبي على صدره
بنظرة منه لعليا الهضاب
هل أنها النظرة الخرافية الخارقة التي تتحدث عنها الأساطير.. إلى جانب البساط السحري لفريد الأطرش، وبساط الفقر لعبدالرضا حسين، وطاقية الاخفاء لإسماعيل يس! والفانوس السحري حيث يعتقل العفريت ثم يحرر وعلى فمه عبارة (شبيك لبيك.. عبدك بين ايديك) ويصنع مالا يُصنع خارج حدود الممكن!.
قالوا: أهذا البدر تعني به؟!
فقلت: هذا بهواه مصاب
عجبت كيف اصطاد مني الحشا
ولم أكن أعشق إلا الرحاب
لماذا العجب يا عزيزي.. أليست هو الذي اصطاد بنظرة منه ظبياء في مقتل وهو على قمة هضبة؟ إذا عرف السبب بطل العجب..
شاعرنا يبدو أنه دفع الثمن.. ولكن أي ثمن؟ وعلى ماذا؟
قبل.. لم يعترف السوسن بوجودي
بعده.. ضحكت من الديوان القديم
بقي أن أودع ساعة اليد
حتى لا يحزن البطل..
لا معنى للساعة إلا لضبط المواعيد.. والموعد أزف.. وربما البطل وصل.. إذا وداع الساعة ألا تتطلع إليها.. ولكن احتفظ بها على ساعدك.. قد تساعدك في انتظار آخر حين يحزن البطل ويحزم أمره، ويعود ثانية بعد غيبة أو جفوة.. الحياة غير مأمونة..
وأخيراً مع مقطوعة شاعرنا علي جعفر إبراهيم (الأخيرة)
كل النُسم.. وكل الندى، والنوال
وعذب الزلال..
وري إذا صب احيا السهد
ليس يُدرى له عالم..
فيه سحر من طين.. فيه أجن
يرفع النفس فوق الهرم
يرمي بها جمرة.. يستريح
إلى البعيد حملنا معه على بساطه السحري دون توقف ودون حاجة إلى وقود!
في حرة الصين أعجوبة خاطفة
عبثت بالفتى
أدخلته بساتين تنداح لا تنتهي
ليت شاعرنا بقي حيث هو دون أن يرحل إلى أقاصي الدنيا، فلدينا ما يكفي من بساتين، والظباء، والنحل.. والنخل، وأشياء كثيرة تدعونا إلى الاقتراب منها لا إلى الاغتراب عنها، ولاسيما إذا كان البساط السحري إليها مهتزا وغير مريح..
يا شاعرنا.. في شعرك تباين.. وليس عيبا أن يكون كذلك.. فنحن المنتسبين إلى مهنة الشعر نحلق حينا.. ونخفق حينا.. ولكن ألا نبتعد عن الفكرة.. وان يكون التقاطنا لها من خلال عدسة شفافة لا تتجاوز الواقع.. ولا تقصر دونه.. الشعر اداة طرح لا يُغيِّب الفكرة.. ولا يغالي في إظهارها.. والصدق أولاً وأخيراً..


الرياض، ص.ب: 231185 الرمز : 11321
فاكس : 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved