الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 21st March,2005 العدد : 98

الأثنين 11 ,صفر 1426

مساقات
نَقْدُ القِيَم خيمة داخل قَصْر! ((12))
د. عبد الله الفَيْفي
إن التباكي على قِيَم الماضي، والبكاء من قِيَم الحاضر، ليشبه في المستوى الفكريّ ما يحدث في مستوى الممارسة من أولئك الأعراب الذين يفدون إلى المدينة فما يلبث أحدهم أن ينصب بيت شعره داخل بيته الجديد؛ إذ يعزّ عليه أن يتخلّى عمّا أَلِفَ، وإن كان الزمان والمكان وضرورات الحياة قد اختلفت كُليّاً عمّا ألِفَه. وليست القضية هنا بالمفاضلة بين البادية والحاضرة، أو بين بيت الشَّعْر وبيت الإسمنت، لكن القضية أن لكل زمان ومكان ما يناسبهما ويَجْمُل فيهما ويُحَقِّق ضرورات الحياة وفق سياقاتهما. وما ندْب الغيورين قِيَم الماضي وتحوُّلَها إلا كذلك الأعرابيّ الذي يريد أن ينصب بيته القديم في بيته الحديث. تلك هي العقلية نفسها التي ينعى خطابُها القِيَم العربية، التي أصبح الحديث عن (الجود العربي) فيها (حديثاً عن التبذير وقلّة التدبير، والحديث عن الشجاعة حديثاً عن الغفلة والجهالة، كما أن الحديث عن الأمانة أصبح مقترناً بقلّة الذكاء، وعدم القدرة على الكسب أو تحصيل المصلحة واكتسابها من أيّ وجه).
(موسوعة القِيَم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية، (الرياض: دار رواح، 1421هـ=2000م)، 19:1 20). مع أن هذا يبدو للقارئ المتأمّل نسَقاً تلفيقيّاً للقِيَم؛ تبدو تلفيقيته من وجهين: أولهما، الزعم بأن قيمتي (الجود) و(الشجاعة) الموروثتين قيمتان من الثوابت، وفق نموذجهما القَبَليّ الذي تجلّى قديماً في رمزي (حاتم الطائي) و(عنترة بن شداد). وهما قيمتان تعدّان اليوم فعلاً إن هما مورستا بنواميسهما القديمة خارجتين عن قِيَم العصر وضروراته؛ فالجود بتلك الصفة القديمة بات تبذيراً وقلّة تدبير، بل سفهاً لا معنى له في مجتمع الوفرة. وأيّ قيمة اليوم في زمن التقنية القتالية للشجاعة بمفهومها العنتريّ القديم، إلا أن تكون غفلة وجهالة؟ أفليس من ينعي قيمتي (الجود) و(الشجاعة) على ذلك النحو، ويتّخذ النموذج الشعريّ الموروث نبراساً إليهما، متغافلاً عن عصره؟ متغافلاً عن البيئة الثقافية القديمة التي نبتت فيها هاتان القيمتان؟ أجل، إنه يتغافل عن أن (الجود الحاتمي) كان وسيلة حياة ومقايضة ضرورية بين الناس. مثلما يتغافل عن أن (الشجاعة العنترية) إنما كانت إبّان الجاهلية، التي لا مكان فيها إلا للقويّ القادر على أخذ حقّه بذراعه، الظافر إن هو (جهل فوق جهل الجاهلين). وهو إلى ذلك يتغافل أيضاً عن أن هاتين القيمتين قد هذّبتا أيّما تهذيب في العصر الإسلامي، لا بفعل الدين فحسب، ولكن بفعل الثقافة والتطوّر الحضاريّ كذلك. حتى باتت قيمة (الرأي)، حسب المتنبي (1) على سبيل الاستئناس تتقدم قيمة (الشجاعة):
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أوّلٌ وهي المحلّ الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفسٍ مِرَّة
بلغتْ منَ العلياءِ كُلَّ مكانِ
ولربما طعن الفتى أقْرانَهُ
بالرأي قَبْلَ تَطاعُنِ الأَقرانِ
لولا العقولُ لكان أدنى ضيْغَمٍ
أدنَى إلى شَرَفٍ من الإنسانِ
أمّا الوجه الآخر لمظهر التلفيق في نسق القِيَم الثلاث (الجود الشجاعة الأمانة)، فهو عَزْوُ هذه الأخيرة إلى الإرْث والقِدَم! ولو أريد الإنصاف لبدت قيمة (الأمانة) اليوم أحسن حالاً منها في تاريخ العرب، وإلى وقت قريب. وقد تقدّم في مساق مضى بيتُ (طرفة الجاهلي) الداعي إلى التروّي من الحياة بلا هوادة، كما تقدّم بيت (النجاشيّ الحارثيّ الإسلاميّ) الهاجي قبيلة عربية، والمخزي أبناءها، ب(لا يظلمون.. ولا يغدرون). فقيمة (الأمانة) قيمة دينية وحضارية واقتصادية، ترسّخها التربية والنُّظُم الاجتماعية؛ ولأنْ يقول قائل إن للحضارة الغربية، وللتقدّم الفكريّ الحديث، علاقة تأثيرية إيجابية في إشاعة التحلّي بقيمة (الأمانة) في المجتمعات العربية اليوم، أقرب إلى الصواب من أن يزعم أن لهما علاقة تأثيرية سلبية. غير أن من قيمنا السلبيّة تعليق كل تقصيرٍ بعدوّ تقليديّ، هو في هذا السياق (الغرب).
ولقد أجملتْ (موسوعة القيم) محاولتها لتكريس الماضي، إذ تقول: بأنها تحاول (إحضار قِيَم الماضي وأخلاقه بلغة معاصرة وأسلوب محدث قريب من إدراك المثقّفين، متضمن حصيلة الماضي وقِيَمَه). ولكن ألسنا هنا أمام صورة (الخيمة تدخل القصر)؟! أو قِيَم الماضي تصلح بالضرورة للحاضر؟! أم أنها قِيَم تخلّقتْ في رَحِم الماضي وفق ضرورات مجتمعه؟ ومن المكابرة الزعم أنها صالحة لكل زمان ومكان، كما أن من المغالطة الادّعاء أن قِيَم المجتمعات البسيطة (النّيئة) في الماضي أكمل وأفضل من قِيَم المجتمعات الحضارية المتعلّمة اليوم؟!: {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} (سورة المائدة:104). هذا فضلاً عن الزعم بأن المجتمع الذي أنتج قِيَم الماضي مع بدائيته غير قادر على إنتاج قِيَمٍ للحاضر، رغم ترقِّيْه. وإذن هو خطاب يصادر على صواب شعارات ورثناها دون برهنة علمية، بل دون أن يعالج شيئاً من مشكلات المجتمع المعاصرة ليكشف خطل قيمه، عِوَض الاكتفاء بالتلويح بالماضي نموذجاً مجيداً لا يُعلى عليه!
وإذا كان هذا هو رأي هذا الخطاب في الماضي، فله في الحاضر رأي نقيض، تتناثر ملامحه في تضاعيف مقدمة (الموسوعة)، غير أنها تظهر منها على نحو خاصفي الموضوع المتعلّق ب(التغيّر القيميّ والأخلاقي) في مثل الحديث عن (أن البحث عن الرفاه، وما ينتج عنه من لذّة ومتعة وقِيَم، ليس ممّا عُهِد في البيئة السالفة المحكومة بالأخلاق المرعية)(2). لكأن الأسلاف لو تهيّأتْ لهم الظروف الراهنة لما بحثوا عن الرفاه، ولزهدوا في اللذة والمتعة! وتلك مقولة لا يقرّها من له أدنى اطّلاع على تاريخ العرب والمسلمين. بل إنه سيجد في تطلّب ذلك لديهم وفي ما دُوّن عنهم فقط ما قد ينبو عنه الذوق الحديث وما صار اليوم ضرباً من الخيال واللامعقول! وحسب المرء أن يستذكر مثلاً واحداً في تملّك الإنسان للإنسان، في مجتمع الطبقيات، وأُسَر السادة والعبيد، والحرائر والإماء، والجواري والغلمان. فكيف يقال إن (البحث عن الرفاه، وما ينتج عنه من لذّة ومتعة وقِيَم ليس مما عُهِد في البيئة السالفة المحكومة بالأخلاق المرعية)؟! ليس سوى تقديس الماضي من إجابة عن هذا السؤال!
إلا أن ذلك التصوّر الملائكيّ لمجتمع الماضي وقِيَمه ليس بمستغرب أمام ما تزعمه (الموسوعة)(3) في محاكمتها للمجتمع الراهن وقِيَمه من أن الأخلاق (صارت غير مستقلّة عن واقع الحياة). وهل كانت الأخلاق مستقلة عن واقع الحياة في الماضي؟! هذا ما يدّعيه هذا الخطاب (الموسوعي)! إذْ يوشك أن يقطع بأن القِيَم تنزلّت من السماء ولم تنبت بين ظهرانيّ المجتمع! مع أنه حتى ما تنزّل من تلك القِيَم والأخلاق من السماء إنما تنزّل وفق مقتضيات المجتمعات البشرية، واشتراطات العصر الذي تنزّلتْ فيه الرسالة السماوية. فكان الإسلامُ آخرُ الرسالات السماوية خلاصةَ الأديان السابقة، من حيث كان المجتمع الذي ظهر عليه خلاصة تراكمات بشرية من التربية والتجارب والتحوّلات؛ فجاء في قِيَمه أكثر الأديان استجابة لمستدعِيات الأحوال، والتصاقاً من أخلاقياته بواقعية الحياة و(ديناميّتها).
ولو تأمّل الباحث في واقع المجتمع المعاصر، لوجد الإسلام المستنير لا قِيَم العرب الماضية وعوائدهم، ولا الإسلام المتأوّل وفق التقاليد والنزعات الإيديولوجية مطواعاً في التشكّل حسب حاجات الإنسان وشروطه (الزمكانية). من حيث كان الإسلام بعكس القِيَم العربية النمطية ونظائرها من القِيَم المؤسلمة قد بثّ في نظريته الشمولية مبادئ عامة، ثم ترك فَلَك الحياة والتطوّر الواسع للإنسان، ما دام يدور على محور تلك المبادئ. وهي مبادئ، إذا تأمّلها العقل المجرّد، رآها عقلانية عالميّة، سهلة التقبّل والتكيُف.
(وللبحث اتصال، بمشيئة الله).
إحالات
1 (د.ت)، شرح ديوان المتنبي، وضَعه: عبدالرحمن البرقوقي، (بيروت: دار الكتاب العربي)، 4: 307308.
2 موسوعة القِيَم: 1: 97.
3 م.ن.

aalfaify@hotmial.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved