Culture Magazine Monday  21/05/2007 G Issue 199
فضاءات
الأثنين 4 ,جمادى الاولى 1428   العدد  199
 
الاقتباسات المطلعية في رواية (جاهلية) (3 من 3)
سعد البازعي

 

 

(أشرت في نهاية المقالة الماضية من هذه السلسلة إلى تدخل الكاتبة المباشر في السرد من خلال الاقتباس، وأنهي هذه السلسلة بالحديث حول تلك المسألة).

كيفية توظيف الكاتبة للاقتباسات في روايتها (جاهلية) مسألة جديرة بمزيد من التأمل، ذلك أن عملية السرد أو القص التقليدية والسائدة تتضمن موقفاً حيادياً في الظاهر على الأقل، موقفاً من الكاتب يجعله يمرر ما لديه من خلال رسم الشخوص أو إدارة الأحداث أو ما إلى ذلك من تقنيات متاحة حسب شروط القص التقليدي، وهو بهذا يتدخل بطبيعة الحال في توجيه عملية القراءة إلى دلالات محددة، فهو يبرز شخصية على حساب أخرى أو حدثاً على حساب آخر، وقد يمنح تفاصيل سردية معينة أهمية تفوق غيرها، لكنه إذ يفعل ذلك فإنما يفعله ضمن الاتفاق غير المكتوب بينه وبين القارئ بأن يبقي ذلك ضمن حدود عملية القص نفسها، أي أنها تظل مستترة أو غير معلنة، وغير مبرزة، لكن ما يحدث هنا، سواء أكان ذلك في استعمال الهامش أو الاقتباس المطلعي أو غيره، يتجاوز التأثير عبر عملية القص إلى ما يشبه القول: انتبه إلى هذه الدلالة، فهي مهمة، أو لا ينبغي أن تفوتك المسألة الفلانية وهكذا. هنا يتداخل السرد بالمقالة، أو السرد بالبحث والحجاج، خارجاً بالرواية عن طورها التقليدي إلى طور أو أطوار مغايرة، وهذا النمط من القص شائع في السرد ما بعد الحداثي كما عند الألماني زيبالد والأمريكي جون بارث، وقبلهما عند بورخيس، حيث نجد المقالة الروائية، أو المقالة السردية، أو السرد المقالي. فالسرد يتلازم ويتداخل مع عملية بحثية ومعلوماتية تؤطر النص السردي بل وتعلوه، كما لدى الجهني. على أن الكتاب يتفاوتون بطبيعة الحال في مدى إتقان هذه التقنية، وهنا يتبادر إلى الذهن نوع الاقتباسات المطلعية التي اختارتها الكاتبة ليلى الجهني في (جاهلية). الاقتباسات المستلة من حرب الخليج جاءت من مصادر صحفية: (يتوقع أن يعلن البيت الأبيض، اليوم، بأن العراق انتهك قرارات الأمم المتحدة...) وهذه الاقتباسات في مجملها لا تبدو ذات صلة بالعملية السردية أو بالقصة نفسها إلا من خلال البعد الجاهلي، أي من حيث أن الحرب والعدوان ممارسات جاهلية، وأن ذلك متصل بالعنف الذي يمارس في أحداث القصة حين يعتدي الشقيق على صديق شقيقته أو عشيقها.

وهذه الصلة تفتح باب الاعتراض من حيث أن أي اقتباس من أي حرب أخرى يمكن أن يحل محل الاقتباس الذي اختارته الكاتبة، بمعنى أنه لا صلة وثيقة لهذه الحرب بالذات بالأحداث، فقد كان يمكن مثلاً أن تكون الحرب حرب العرب أو الفلسطينيين مع إسرائيل، ومع ذلك فقد يرد على هذا الاحتجاج بأن أي اختيار يمكن أن يقال عنه ما قيل هنا.

في الجانب الآخر تبدو الاقتباسات الأربعة المستلة من التراث أكثر صلة بالموضوع أو أكثر اتصالاً عضوياً به، فهي تسلط الضوء على الجاهلية من حيث هي تذكر بتجذر العبودية والنظرة العنصرية في الموروث العربي الإسلامي، فتمنح الأحداث بعداً معمقاً في داخل الذات العربية وتاريخها الذي تعتز به.. أي أنها أكثر مصادمة للعمق الثقافي والاجتماعي الذي يسعى السرد إلى استفزاز مشكلاته وتناقضاته، فهي من هذه الناحية عتبة رئيسة باتجاه النص الثقافي الاجتماعي، وهي في الوقت نفسه فضاء دلالي بارز للجاهلية المنتشرة، فالجاهلية هنا تبرز بوصفها جزءاً من الإسلام التاريخي، الإسلام الاجتماعي، أو الممارسة السوسيوثقافية للإسلام حيث يحضر التمييز العنصري والاضطهاد الفردي والجماعي. في ختام الرواية اختارت الكاتبة أن تعرض الدلالات المعجمية والثقافية لأسماء الأيام والشهور التي استعملت في الجاهلية التاريخية، أي في فترة ما قبل الإسلام، والتي تستعملها الكاتبة طوال الرواية لتأريخ الأحداث كما في قولها (مؤنس الثامن من وعل من العام الثاني عشر بعد عاصفة الصحراء) (مؤنس هو المقابل ليوم الخميس بينما وعل هو المقابل لشهر شوال في التقويم الهجري).

والمقالة التي تتضمن التوضيح جهد بحثي واضح كتب على شكل بحث قصير أو تقرير مكثف، مغزاها واضح في تكريس دلالة أساسية أو كبرى للجاهلية: فهنا يتضح أن الجاهلية التي سعى العرب إلى التخلص منها بالتخلص من تلك الأسماء القديمة لم تزل حية ترزق في سلوكيات العرب والمسلمين. وقد حرصت الكاتبة على (فضح) تلك الجاهلية الكامنة ليس من خلال قصتها فحسب وإنما أيضاً من خلال الاقتباسات المطلعية لفصولها وكذلك الاختتام الكلي لتلك الفصول وما فيها من أحداث ودلالات.

أخيراً أود أن أضيف أننا في هذا العمل أمام منجز روائي جدير بالاهتمام سواء من حيث الطرح الموضوعي، أي القضايا المهمة والحساسة التي يثيرها، أو من خلال التقنية التي توظفها الكاتبة والتي من شأنها أن توسع من آفاق السرد المحلي بشكل خاص، ومع أن التقنية المتمثلة بالاقتباسات وأسماء الأيام والفصول وما إليها ستكون ثقيلة على القارئ غير المتخصص أو الراغب في جرعات ثقافية ثقيلة، فإن المحتوى السردي للعمل مثير وقادر على الاحتفاظ بالقارئ، والرواية من هذه الناحية ممتعة بقدر ما هي مهمة.

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5135» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة