Culture Magazine Monday  21/05/2007 G Issue 199
فضاءات
الأثنين 4 ,جمادى الاولى 1428   العدد  199
 
ويحدثونك عن عاصي الرحباني
غازي ابو عقل*

 

 

شهد صيف العام 2006 مرور عشرين سنة على رحيل عاصي الرحباني عن هذه الدنيا، اهتمت وسائل إعلام متنوّعة بإحياء ذكرى هذا الفنان العظيم، وهو جهد مشكور ومفيد.

اللافت للانتباه كان تفوّق وسائل إعلام مكتوبة غير لبنانية كالجزيرة مثلاً، على عدد من الصحف اللبنانية في إعطاء تلك المناسبة حقها. مما يثير دهشة القارئ المتابع وأسفَه أيضاً.

من هذا المنطلق رأيت تناول موضوع إحياء ذكرى رحيل عاصي الرحباني، مختاراً مثالاً وحيداً فحسب من بين عدد كبير من الأمثلة.

اخترت هذا المثال من الملحق الثقافي لصحيفة يومية بيروتية معروفة، أوقفت ثلاثة أرباع مساحة الملحق على ذكرى عاصي، ضانة عليه بالربع الرابع لأسباب لم أتمكن من تقديرها.

تضمن الملحق الثقافي المنوه به عدة مقالات تفاوتت سوياتها. لن أتوقف عند أي من هذه المقالات، باستثناء الافتتاحية التي أوقفها مدير تحرير القسم الثقافي على الذكرى، لأنها فعلاً تستحق التوقف عندها. قدَّم مدير التحرير لموضوعه بهذه الجملة المفيدة والبليغة في آن:

(كثُر هم الذين يبدأون نهارهم بأغنية لفيروز)...

صحيح أنه لا يجوز الفصل بين نهاد وعاصي، وأن ذكر أحدهما يستدعي ذكر الآخر، ولكن السؤال يفرض نفسه: إذا كنتُ أكتب عن بيتهوفن فهل أبداً بكاريان؟... وماذا لو أن المستمع اختار أن يبدأ نهاره بأغنية لفيروز وضع موسيقاها ملحنون آخرون: بدءاً بالملحن السوري محمد محسن ومروراً بفلمون وهبة وانتهاء بالأستاذ محمد عبد الوهاب؟ أين نكون قد وضعنا عاصي ونحن نحيي ذكراه؟...

جاءت بعد تلك الجملة، واحدة ثانية نصها: (- كثر - يفضلون أن يصحوا على موسيقاها..)

إلى من يعود الضمير في - موسيقاها؟ إلى فيروز طبعاً.

أما كان ينبغي له أن يكتب: يفضلون أن يصحوا على صوتها... وعلى موسيقى عاصي..

أظن، وبعض الظن في محله، أن الكاتب ما زال متأثراً ببرنامج كان يقدّمه المرحوم منير الأحمد، نجل الشاعر الخالد (بدوي الجبل) من إذاعة دمشق، طوال عدة عقود (مرحباً يا صباح)، لمن كانوا يفضلون أن يصحوا على صوتها... وهم كثر فعلاً، وكنت منهم..

استدرك الكاتب هنا فلم يكتب موسيقاها، بل صوتها، ولكنه استدعى سؤالاً بشأن (الرياضة الروحية) عندما أطلق هذه الصفة على من يريدون سماع فيروز، إطلاقاً شمل ما غنته كله... فأين هي هذه الرياضة في: عَ هدير البوسطة، أو في تك تك يا أم سليمان، أو في رزق الله ع العربيات، أو في هالسيارة مش عم تمشي، أو في هيك مشق الزعرورة، أو في عبده حابب غندورة، أو في مكانسنا، أو في يا رئيس البلدية، أو في شو هالعيطة... على سبيل المثال... أما إذا كان الأستاذ رئيس التحرير قد وجد في: معافى يا عسكر لبنان، أو في شام يا ذا السيف، أو في حي الكويتَ ويومها الوطنيا.. إذا وجد في هذه الأغنيات تلك الرياضة الروحية، فهذا شأن لا نناقشه فيه.

فاجأتني كلمة في سياق افتتاحية رئيس التحرير أعلن عجزي عن استيعاب ما عناه بها عندما وضعها في سياق هذه الجملة: (ليست التوتولوجيا العاطفية مدار الأغنية الرحبانية)... أعلن عجزي لا بسبب صعوبة (المصطلح)، بل لكون الأغنية الرحبانية - وغير الرحبانية - مليئة بالتوتولوجيا. ولو أن أستاذنا كان يستمع إلى البرنامج اللغوي الشهير parler au quotidien من إذاعة فرانسا الدولية -RFI- وبخاصة إلى الحلقة التي أذيعت في آذار - مارس من سنة 1991 من أجل شرح استعمالات كلمة توتولوجيا وتحولاتها من عصر إلى عصر، لما أقدم على نفي صفة التوتولوجيا عن أي شيء في هذا العالم ومن ذلك افتتاحيته في ذكرى رحيل عاصي..

السؤال: لماذا لم يبسط أستاذنا الأمر علينا، فلجأ إلى هذه الكلمة الإغريقية العتيقة؟ فهل كان يعتبر قراءه من مواليد أثينا أيام سقراط، لا أيام الكولونيل بابادوبولس، صاحب الانقلاب العسكري المعروف في نيسان - أبريل 1967م...؟

يصر الأستاذ الكاتب على استعمال معيار طريف في رَوْز الطرب والمطربات.. معيار غير فني وغير موسيقي..فيغادر فيروز التي (يفضل الناس أن يصحوا على موسيقاها) ويحط عند أم كلثوم، والمناسبة إحياء ذكرى عاصي الرحباني ليكتب: (ليست أغنية أم كلثوم أغنية يتزوّد بها المرء وحيداً قبل أن يخرج من فراشه ويذهب إلى عمله. إنها أثقل وأكثف من ذلك وتحتاج إلى وقت وصحبة).

واضح أن الكاتب لا يذكر من أم كلثوم إلا مطولاتها الثلاث والثلاثين المملة، التي ملأت المرحلة الأخيرة من مسيرتها الفنية، والتي تقاسم تلحينها بليغ حمدي - إحدى عشرة أغنية - ومحمد عبد الوهاب - عشراً - والموجي - ثماني - وكمال الطويل - ثلاثاً - دون نسيان وحيدة سيد مكاوي: (يا مسهرني)..

هذه المطولات المملة عسير على الذواقة لا أن يبدأ نهاره بها فحسب، بل عسير عليه أن يسهر معها إلا إذا كان خارج دائرة الوعي.

الاكتفاء بكلمتي (أثقل وأكثف) في سياق وصف غناء أم كلثوم يظلمها فعلاً، وليسمح لي رئيس التحرير بهذه الأسئلة المتماثلة:

أليس من الممتع أن نبدأ نهارنا بابتسام الزهر (لحن زكريا أحمد من مقام الحجاز كار 1936)؟ ونبقى مع (الشيخ) زكريا لنبدأ نهاراتنا مع اللي حبك يا هناه (راست 1931) أو أكون سعيد (بياتي 1932)، أو مع ذلك الدور الخالد امتى الهوى يجي سوا (هزام 1930).. وإذا كنا على سفر، فلماذا لا نبدأ يومنا بلحن السنباطي الشهير على بلد المحبوب وديني (كورد 1955) أو بكره السفر لزكريا، أو ح قابله بكره للسنباطي 1948 أو بقصيدة أيها الفلك على وشك الرحيل رائعة القصبجي من مقام النهاوند 1934م ... وبلاش حكاية المقامات دي حتى لا نتهم بالتوتولوجيا الاستعراضية..

ألا يوافقني الأستاذ رئيس التحرير، على أن أعضاء التنظيم الشعبي الناصري (في حدود بلدية صيدا اللبنانية على الأقل) يسرهم أن يستيقظوا كل يوم وأم كلثوم تغني لهم: يا جمال يا مثال الوطنية أو رسالة إلى جمال عبد الناصر، شعر نزار قباني ولحن رياض السنباطي.

ألا يتمنى مزارعو البقاع وعكار أن يستيقظوا مع أم كلثوم وهي تغني سلام الله على الأغنام، أو القطن فتّح؟

ألا يفضل المتفائلون - على قلتهم - أن يستيقظوا مع افرح يا قلبي، أو مع الزهر في الروض اتبسم؟ وهل يعترض الحزانى إذا استيقظوا على: شجاني نوحي بكيت (زكريا 1934)...

أنا على ثقة من أن متطوعي الأحزاب المقاتلة - بين الخليج والمحيط يفضلون الاستيقاظ على صوت أم كلثوم وهي تنشد: إنا فدائيون، أو ثوار ولآخر المدى ثوار، أو راجعين بقوة السلاح - لا إلى مزارع شبعا فقط - هذا إذا لم تنشد لهم: نصرة قوية. لأن ما أنشدته (الست)، على علاته، ما زال أفضل بكثير مما تتحفنا به وسائل إعلام تلك الأحزاب من أناشيد.

ألا يوافقني رئيس التحرير أن كثيرات من مقدمات برامج الفراغيات يسعدهن - قبل الخروج من أسرتهن - الاستماع إلى طقطوقة الدكتور النجريدي - الخلاعة والدلاعة مذهبي من زمان أهوى صفاها والبني - التي كتبها ولحنها لأم كلثوم وغنتها منذ 1925 مستشرفة المستقبل؟ هذا إذا لم تفضل بعضهن من (المحتشمات) أغنية: يا صباح الخير يا اللي معانا...

لست أعرف هل سيعترض المواطنون اللبنانيون - بخاصة - وغيرهم من سكان دنيا العروبة، إذا ما صبحتهم ثومة: بدليلي احتار أو أروح لمين؟ هل نسينا أي (شريحة) من السميعة؟ نعم ، فكم من سياسي مخضرم وناشئ ورث السياسة، يفضل أن يبقى في سريره وهو يصغي بعمق وانسجام إلى أم كلثوم تغني له شخصياً رائعة القصبجي: يا مجد ياما اشتهيتك..

أما الملايين من (الغلابة) الذين يخرجون باكراً إلى الكد اليومي دون أن يتمكنوا من الاستماع إلى أي شيء، فلن ننساهم ونهديهم إما يا ظالمني أو ظلموني الناس أو للصبر حدود، أيها يفضلون.. لماذا نسينا أعطني حريتي.. هل لأنها أثقل وأكثف..؟

*اللاذقية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة