Culture Magazine Monday  21/05/2007 G Issue 199
فضاءات
الأثنين 4 ,جمادى الاولى 1428   العدد  199
 

مساقات
(فِتْنَة): البنية السردية! (4 : 6)
د. عبد الله الفَيْفي

 

 

-1-

أشرنا في المساق السابق إلى ما تشربته بطلة رواية (فِتْنَة)، للكاتبة أميرة القحطاني (بيروت: دار العلم للملايين، مارس 2007)- بوصفها نموذجًا اجتماعيًّا- من فكر يواجه ما يراه تطرّفًا بتطرف مضادّ، لا يقلّ شراسة، وبنهج غير سويّ في تعامله، ولا متزن، ولا عادل، ولا قادر على أن يرى الحياة خارج خارطة عُقَده، التي نَمَتْ عبر صدمات الحياة. وهي حالة مندغمة في رؤية كالحة إلى العالم، وفق منظار أحادي العين، كثيرًا ما يلعب دوره في تمزيق النسيج الاجتماعي، شِيَعًا وتيارات وأحزابًا متنافرة متناحرة! وفي هذا تسليط ضوء على نماذج إنسانية يعانيها المشهد الاجتماعي والثقافي، إلا أن العمل الروائي، في نضجه وكماله، ليس بخطاب منبريّ، يعلن مواقف تيّار فكريّ من آخر، ويقف عند ذلك الحدّ، وإلا صار بنفسه خصمًا وحَكَمًا، وصار عمله مطيّة توجّهه الفكري ومواقفه الخاصة، وإنما العمل الروائي تصويرٌ أمين للحياة بأوجهها المختلفة، بخيرها وشرها، إيجابيّها وسلبيّها، في رَصْد- ينأى فيه صوت المؤلِّف عن الحضور المنحاز، وإنْ كان الحياد المطلق مستحيلاً- لعَرض خصال الناس، كما هي، دون تعمّد تشويه أو تجميل. فعواطف المؤلف- المؤلفة الشخصية تُعدّ من مواحق النضج في العمل القصصي.. وتلك نقطة اختلاف جوهريّة بين طبيعة العمل القصصي، والطرح المؤدلج، الذي يتخذ السرد محض وسيلة.

-2-

وباستقراء البنية السرديّة في رواية (فِتْنَة)، يُلحظ أن ضمير الخطاب في النص هو ضمير المتكلم؛ إذ بطلة الرواية هي راويتها فِتْنَة عبدالرحمن القحطاني، متكئةً في بعض الحالات على (المونولوج(الداخلي، أو (المناجاة)، كما في (ص132 مثلاً). هذا فضلاً على ما سبقتْ إليه الإشارة من أن الأحداث- معظمها- محض ذكريات، زمنها ذاكرة الراوية، لا زمن الشخوص الروائية، ولا زمن تنامي الأحداث. ما يسم العمل إجمالاً بطابع (السيرة-الرواية)، السائد طرحها -في مباشرة غالبة- في ساحة الكتابة الروائية في السعودية والخليج العربي.

ولقد بدا البناء الروائي في رواية (فِتْنَة) بلا مفارقات مثيرة، ولا أحداث ترتقي كثيرًا بحركة التطوّر الدرامي في النص، بما هو قائم على لقطات تتبعها تداعيات، تُسعف بها ذاكرة البطلة، من هنا وهناك. وهذا ما انتهى بالنص إلى ما يُشبه المسلسلات التلفزيونية الخليجية، المعتمد بناؤها غالبًا على الحوار، في ذكريات تترَى، ومواقف متعاقبة، وفق تغليبٍ واضح للرسالة الإعلامية -تربويّة أو اجتماعيّة أو سياسية أو فكريّة- على تجويد البناء فنيًّا أو افتراع أبنية جديدة، ليميل العمل القصصي عندئذ إلى أن يُمسي وسيطًا، وكأنما كُتب من أجل إيصال مضامين في البال، ولذلك فإن قارئ (فِتْنَة) قد يسأل بعد الانتهاء من قراءته: أين القصة في القصة، ضمن هذا العمل الذي يصوّر رحلة حجٍّ تُتّخذ جسرًا لطرح قضايا سياسية واجتماعية وفكريّة؟ وهو سؤال مشروع، لكن ذلك النمط السردي الذي تبنّته الكاتبة مشروع كذلك، ومن التعسّف أن تُفرض عليه معايير نموذجية صارمة لأعمال أخرى، فحسبه أن توافر على جماليته الكتابية الخاصة، واستطاع أن يستقطب القارئ، ولاسيما أن ميدان السرد الحديث أصبح يستوعب أشكالاً شتى، ولم يعد محتكمًا إلى المقاييس التقليدية للقَصّ.

ومن جهة أخرى، فإن عملاً أوّل بذلك المستوى الشائق الذي كتبته أميرة -مع ما يصاحب أول مولود عادةً من اضطرابات ومتاعب -ليؤذن بأن المواليد القادمة ستكون أصح وأجمل وأنضج!

-3-

وتتنقل بيئة هذه الرواية بين قطر، وجُدَّة، ومكّة، وباريس، وجنوب المملكة، أو منطقة عسير تحديدًا، في غير ترتيب، ولكن عبر تداعيات الذكريات، كما مرّ، وما يلفتُ النظر في بيئات الرواية تلك -على وجه الخصوص- ما تصوّره الكاتبة حول بيئتها (الأب)، منطقة عسير، (ص63 وما بعدها)، حيث تبدو تلك المنطقة في النصّ كما لو كانت بيئة بدوٍ رحّل، من أهالي الصحراء، يأكلون الأقط ويعيشون في بيوت الشعر! ما يجعل قارئًا يجهل طبيعة المنطقة يُخيّل إليه ذلك! ولئن لم تكن الكاتبة تُحدّد الأماكن التي تدور فيه الأحداث -سوى إشارتها اليتيمة إلى أن أحد العُشّاق لإحدى قريبات فِتْنَة كان من وادي جأش، (ص76)، وهو وادٍ شرق منطقة عسير، ممّا يشير إلى أن الأحداث كانت في تلك النواحي على مشارف الصحراء- فإن بيئة عسير ليست بصحراء ولا بادية كما وصفتْ الكاتبة، وإنما هي بيئة جبلية ريفية زراعية رعويّة، في الغالب.

وكذلك فقد بدت اللهجة التي تسوقها الكاتبة على ألسنة المتحدثين من تلك الديار ذات لكنة صحراويّة قحّة، أكثر منها جنوبيّة أو عسيريّة. وذلك كأن تقول قريبتها من هناك: (يا شق جيبي وش تقولين)! ربما كانت المرة الوحيدة التي أجرت الكاتبة على ألسنة شخوصها لهجة توحي بلهجة تلك المنطقة المحدّدة هي في قول قري بتها تلك: (أصه أصه لا حد يسمعك!). (ص78). وهنا -بعيدًا عن شبهة عدم إلمام الكاتبة أصلاً بطبيعة المنطقة التي اتخذتها مكانًا روائيًّا وبثقافتها- لعل التخريج لتلك الظواهر يُلتمس في إمكانية أن تكون الأحداث على مشارف البادية من تلك المنطقة، لا في أريافها، وإن ظلّت الكاتبة تعمّي على القارئ، فلا تُسمي إلا عموم المنطقة وأماكنها المشهورة، التي تزورها من وقت إلى آخر، كأبها، والسودة، ونحوهما.

كما أنه يظهر أحيانًا خليط من المبالغة ومجافاة الواقع في وصف فِتْنَة المجتمع العسيري وثقافة تلك المنطقة بشكل عام، من ذلك -في وصف القِيَم الاجتماعية هناك- ما أشارتْ إليه بقولها: (الحُبّ في) الديرة (مقدّس، يمارسونه في النور وباحترام)! (ص69)، بل إنه، بزعمها: (ليس هناك شيء اسمه حرام أو عورة)! (ص64). وهذه مبالغة مسرفة، لا أساس لها، إلا أن كانت فِتْنَة تتحدث عن (دِيْرَة) أخرى في غير جزيرة العرب! أو كان التعبير قد خانها هاهنا، إذ أرادت الإشارة إلى حرية الحديث بين الرجل والمرأة، لا (ممارسة الحُبّ)، بما توحي به هذه العبارة، وأن (الحرام) و(العورة) المقصودين هناك بمعناهما الاجتماعي، لا بالمعنى الشرعي. ثم إذا كانت فِتْنَة قد ذكرت في موضع آخر من النصّ (ص76- 78) أنه يمكن أن يُقْتَل الرجلُ لمعرفة حُبّه بنت القبيلة أو التقائه بها، حينما يكون من قبيلة أخرى، فإن قولها: أن (الحُبّ يمارس في النور)، إذا كان طرفاه من القبيلة نفسها، يصبح محض خيال (باريسيّ)، أو بالأحرى هو تعبير تجاوزيّ، كما مرّ، بل أن البطلة قد اندهشتْ من عدم استعمال كلمات عاطفية بين المحبّين هناك، إذ انتهرتها قريبتها، قائلة: (يا شق جيبي وش تقولين.. أصه أصه لا حد يسمعك)، فكيف بما ذكرت؟!

وممّا تذكره الراوية -وفيه صورة نمطيّة غير دقيقة، وربما غير صحيحة- أن المرأة في الجنوب، أو في عسير، كانت لا تتزوج إلا ابن عمّها (ص69)! ولعل هذا غير صحيح، بل غير معقول، على إطلاقه! وإنما تلك تقاليد البادية العربية، غالبًا، التي تذهب إلى أن البنت لابن عمها. على حين أن ابن العم كان- حسب الأعراف في جل قبائل الجنوب أن لم يكن كلها- يُعدّ كالأخ، قد لا يزوّج أصلاً بابنة عمّه؛ لذا يبدو أن النصّ يعوّم القِيَم هنا من مجتمعات معيّنة على مجتمعات أخرى، في الوقت الذي لا يُحدّد المكان الذي عليه مدار الحديث، إلا في إطار جغرافي واسع النطاق، مختلف الأعراف والتقاليد. وفي هذا نقطة نظرٍ معرفيّة في تصوير البيئة وثقافتها الاجتماعية.

والتعليل الأوليّ لذلك يبدو في معرفة شيء وغياب أشياء عن رصيد النص المعرفيّ وذاكرته، فإذا هو يقيس الغائب على الشاهد. هذا إلى أسباب أُخَر، نرجئ الإلمام بها إلى المساق الآتي، بإذن الله.

عضو مجلس الشورى aalfaify@yahoo.com لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة