Culture Magazine Monday  21/05/2007 G Issue 199
فضاءات
الأثنين 4 ,جمادى الاولى 1428   العدد  199
 

على مائدة الشيخ التويجري (10)
الدكتور عيد بن مسعود الجهني

 

 

الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري من الرجال الذين لا تغيّرهم الطوارئ، ولا تغويهم ماديات الحياة، ولا يهز دواخلهم بهارج حضارة العصر بما فيها من وسائل الرفاه والترف، فقد ظل رغم ما أتيح له من وسائل الحياة البدوي النقي، في صدقه ونخوته ونجدته، وهو كثيراً ما عبَّر في كتاباته عن البدوي في داخله، والذي لم يستطع ما دخل في حياتنا من وسائل أن يطمس شخصيته أو يجعله يتوارى ويغيب.

وكثيراً ما عبّر الشيخ عن ضجره من تلك الحياة الحديثة الغارقة في المظاهر والترف، وبث أشواقه لحياة البادية ببساطتها ودفئها، بل أحياناً يعاتب نفسه ظناً منه أنه غمس رجليه بعض الغمس في ترف الحياة المدنية.

ففي كتابه (خاطرات أرقني سراها) يخاطب خاطرة راودته فيقول: (تنهدت ثم قالت: أشم في أوراقك وفي ثيابك رائحة غير روائح الصحراء، كم حدقت فيك وتساءلت: هل أنت هو؟ ما الذي غيَّرك؟ ما هذه البدانة التي عليك وعهدي بك عربياً أسمر اللون كالرمح في قوامك؟ أهذا هو النفط أغرقك في مياهه؟ حرت في الجواب، فأخرجتني من الحيرة، وقالت: أخرجني من قصرك، أرني مخرج البيت، فخيمتي هناك في قلب الصحراء حفرت مدفني بجانبها وأوصيت القمر وسافرات النجوم أن يؤانسني في قبري ودعتها وودعتني على مخرج البيت، وقالت: يتراءى لي أنك تستقبل ذكريات الصبا وأيام الصحراء على مضض، وتستوحش منها، فهل أفهم من ذلك أنك صرت إلى دولار وإلى نفط وإلى بدانة وترهلت فيك قيم الصحراء).

ويعترف الشيخ التويجري أن عطاء الحياة الحديثة قد غيَّر ظاهره، ولكنه يؤكد أن داخله لا يزال يحتفظ بنقاء ابن البادية وصفاء ابن القرية.

إن مظاهر الحياة المادية - عند الشيخ التويجري - إنما هي قشور، وعد عاملها دائماً على هذا الأساس، على أنها قشور لا تنفذ إلى أعماق الروح فتبث فيها الهناءة والسعادة والراحة، وربما كان هذا هو سبب الشقاء الذي يعيشه إنسان هذا العصر، أما تلك المعاني التي تتسرب إلى اللباب إلى أعماق الروح وسراديب النفس فتبعث فيها السعادة وتضمنها بأنواع السرور والراحة، فإن مصدرها القيم السامية والمعاني الإنسانية العالية.

والشيخ عبد العزيز من تجاربه الناضجة العميقة عرف أن الاندهاش بالحياة المادية الحديثة والانخراط في دروبها لا يورث إلا الشقاء، وأن النجاة هي في الخوف من فخاخها المغرية ونداءاتها المثيرة، وأن هذا الخوف يولّد الحذر وأن الحذر هو طوق النجاة من الافتتان بها.

وفي هذا المعنى يقول الشيخ التويجري في كتابه (منازل الأحلام الجميلة): (فأنا في يومي هذا اختلف في المظهر العام عن داخلي اختلافاً كبيراً، في داخل نفسي لم يتغيّر عندي شيء، لم أفقد توازني ولم أسمح لسفينتي التي أركبها اليوم أن تبحر بي على غير ما أشتهي، إذا دخلت بيتي ورأيت ما أدخلت على الحياة فيه من عطائها الجديد حمدت الله وخفت أن افتتن بذلك، فخفت أن أفقد توازني وأن يصيبني الدوار، والخوف سلاح بيد الإنسان إذا استعان به في سبيل حماية نفسه).

والشيخ التويجري يعرف أنه لا مناص من هذ التغيير الذي أخذتنا إليه الحضارة الحديثة، وأنه هو نفسه مجبر على الاستفادة من عناصرها ومكوناتها، ولكن لهذه الحضارة مخاطرها، وهي قادرة ببهرجتها وجاذبيتها على استلاب الإنسان وأخذه إلى طريق كثير المزالق والمخاطر وفجاج محفوفة بالمهالك، وأنه لا نجاة إلا بتمسكنا بقيمنا وديننا التي أفلح بها سلفنا الصالح وسعدوا.

يقول الشيخ التويجري في كتاب (منازل الأحلام الجميلة): (فإذا حولتنا هذه الحضارة اليوم من واقع إلى آخر وأخذتنا من ضيق ذات اليد إلى سعتها، ومن الخيمة والكوخ إلى القصر، ومن الجمل إلى السيارة ومن التحاف السماء وافتراش الأرض إلى ترف البيوت، فماذا علينا أن نفعل؟ علينا أن نتذكَّر أن هذه النوبة الجنونية التي أصابت أعماق أرضنا فأخرجت لنا هذا الطوفان المادي ليس لنا النجاة منه إلا إذا صنعنا نحن بأنفسنا من ذواتنا، ومن وعينا سفن نجاة، ألواحها من صلابة أخلاقنا وسلوكنا، ذلك أو الطوفان).

والشيخ التويجري يحن إلى ذلك المجتمع الطيب المعافى، مجتمع البادية، تلفته إليه الذكريات الحلوة، ويدفعه للتمسك به إحساسه الأكيد بأن ما تشرّبه من قيم هو وسيلة نجاته من مخاطر الحضارة الحديثة.

يقول الشيخ التويجري في كتاب (منازل الأحلام الجميلة): (في هذا المجتمع عشت وتداخلت حياتي معه، وصار اليوم إلى ذكرى في نفسي، ذكرى جميلة وحزينة، جميلة لأنها قوة تدعمني من السقوط في هوة المدينة المعاصرة، وحزينة لكونها صارت ذكرى، ولم تعد باقية فينا ومجسدة فملامحها التي أصابها النحول شمسها تدلف إلى المغيب).


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة