الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 21st July,2003 العدد : 21

الأثنين 21 ,جمادى الاولى 1424

عشت في حياتهم
عبد الله الماجد
أحمد الصالح العراف الذي لم يسقط 12

من سعادة أيام جيلنا المترع بالحب والصفاء، أن كان بيننا "طائر مغرد" يشبه تلك الطيور، التي تظهر فجأة في مباهج ربيع صحاري نجد، ذلك الربيع الذي يمسح تجهم تلك الصحارى، ويرسم على وهادها وتخومها لوحة ربيعية، تشم فيها روائح أفانين زهورها، تتمايس في زهو راغد، ولجمالها وفتنتها، فإن عمرها قصير كعمر الاشياء الجميلة.. هذا الطائر المغرد، الذي ظهر فجأة بيننا، كما تظهر طيور الربيع تؤطر طلاقة حالته وخيلاء جماله، ولكي تؤنسك وتأسر وجدك فإنها تختفي، منتظرا عودتها كعودة السنابل مرة أخرى في بذورها وكانبعاث الماء غيما ومطرا، ومن وجد الثرى والأرض ترتوي به، ثم تعيد انبعاثه مرة أخرى غيثاً ومطراً.. هذا الطائر آنس الوجود ولم يتوار عبر مواسمه، بل جعل كل المواسم ربيعاً وظل يغني ويبهج تنوع الفصول، بل وحد بينها، فجعلها مواسم للغناء.
في قوامه الناحل الذي يشبه السنابل؛ جمال السنابل في اتساق قصباتها الناحلة وقوتها، وسرها في سنبلتها التي أنبتت مائة حبة من حبة واحدة وهاهو كما السنابل، حين يبدع القصيدة، تنبت مائة قصيدة. هو فطرية الحياة وايجابيتها في انبات ماهو جميل فيها، كما ينبت فيها "الكمأ" والزهر كالماء الجميل، وانبلاج الفجر، وعذوبة الصباح، هذا الجميل الصامت، ككل محسوسات الجمال التي لا تبوح بسرها مباشرة، هو الشاعر "أحمد صالح الصالح" الذي اختار لنفسه اسما شاعريا هو "مسافر" كما لو رأى ان رؤى الشعر وقوافيه في سفر دائم، حينما يقولها الشاعر تسافر تخترق الحدود بدون تأشيرة ولا تذكرة سفر، ولا وسائط نقل يسافر الشعر إلى اللامتناهي حيث يوجد بشر يقرؤون الشعر ويحفظونه.
تميزت علاقتي بأحمد الصالح، على نحو من وشائج الأخوة التلقائية لم يسأل أي منا هذا السؤال: لماذا اختار كل منا الآخر ان يكون رفيق دربه، كان "أحمد" في كل صفاته، "شاعراً" والشاعر فيه صفات "الفارس" شديد الحساسية لمشاعر الآخرين، لايستأثر بشيء ما لنفسه قبل غيره، يؤثر على نفسه.. جمعت بيننا هذه الصفات الإنسانية، قبل ان تجمعنا تلك "الرحلة التاريخية" كما يصفها رأس مثلثنا الثالث "حمد القاضي" إلى القاهرة، هذه الرحلة التي أحدثت تحولا جذريا في حياتي، على نحو لم أكن أتوقعه، أو قد رسمت له أهدافا، وحيث ارتبطت حياتي بهذه "المدينة القاهرة" فيما بعد توقف تواصل "أحمد" معها، عند حدود التلقي، والتأثير عن بعد، ملامسة المكان واستشعاره عن طريق ما تنتجه هذه المدينة، من ثقافة وأدب حيث يكون.
حينما أعود بذاكرتي إلى أجواء تلك الرحلة، وما حدث فيها أجدها من أعذب وأروع ما مر في حياتي من ترحال، أقل وصف يمكن ان يطلق عليها، أن تتصور طائرين هاجرا في موسم هجرة الطيور زمنا متلازمين، ثم آبا إلى حيث انطلقا من هجرتهما المؤقتة متلازمين.
بدأت هذه الرحلة متزامنة مع بداية تسلمي مسؤولية تحرير الصفحة الأدبية في جريدة الرياض، التي أصبحت فيما بعد أول ملحق أدبي في صحافتنا من أربع صفحات بدأت رحلتنا في الرابع والعشرين من شهر اغسطس 1971 وهو تاريخ لم أكن أنساه، واستمرت إلى العشرين من شهر اكتوبر من السنة نفسها. لم نكن قد سافرنا خارج وطننا، ولهذا فقد كانت لنا دهشة القادم لأول مرة كما يقول استاذي الزيدان رحمه الله "للقادم دهشة" بل تذكرت بعد فترة من الزمن وكنت أكتب أول رسالة لأخي من القاهرة، أصف فيها كل شيء غريب شاهدته نقلت إليه أنني شاهدت "منائر مصر" التي كنا نقولها في بلادنا تعجبا، وكنت أصف مشاهد المسرحيات التي نحضرها، وكيف يتم تغيير المشاهد وبناء الديكور المتحرك وأصف له "التروماي" الذي كان يتحرك في أحشاء القاهرة بين شوارعها مشدوداً إلى أسلاك كهربائية معلقة، ونقلت له أننا أحمد وأنا لم نكن نعرف ركوب "الأوتبيس" وسيلة النقل الرئيسة آنذاك في القاهرة وشرحت له ان هذا الاتوبيس لايتوقف بل يهدئ من سيره فينزل الركاب أفواجاً دفعة واحدة، ويتزاحم آخرون بنفس الطريقة للركوب وهو سائر وذكرت له موقفا كيف أننا جربنا النزول بهذه الطريقة، وان أحدنا "تكوم" على الأرض، وهو يحاول النزول، ثم تعلمنا طريقة النزول فيما بعد، تذكرت الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" وهو يصف باريس في كتابه بعد ذلك "تلخيص الابريز في وصف باريز".
خلال تلك المدة التي أمضيناها في القاهرة تمكنا من مقابلة أهم الكتَّاب والشعراء في مصر، وأجرينا معهم أحاديث صحفية، وكذلك أهم الرموز في عالم الفن، ومن أبرز من أجرينا معهم أحاديث "نجيب محفوظ" و"صلاح عبدالصبور" و"يوسف السباعي" ومن جيل الشعراء الصاعدين في ذلك الوقت "أمل دنقل" و"محمد ابراهيم ابوسنة" و"حسن توفيق" و"مهران السيد" بل إننا ارتبطنا طيلة أيامنا في القاهرة، بهذه الكوكبة الصاعدة من الشعراء، نلتقيهم كل يوم.
سوف أتوقف عند لقاءين، لارتباط مناسبتهما بأحمد الصالح، كان لقاؤنا مع الشاعر الراحل "صلاح عبدالصبور" في منزله بحي المهندسين في شارع "دجلة" وهو الذي ارتبطت حياتي معه فيما بعد حتى وفاته وكنت قد أجريت حديثا صحفيا معه قبل ان نلقاه في القاهرة حيث كتبت مجموعة من الأسئلة، وارسلتها مع صديقنا الكاتب الفلسطيني "اسماعيل كتكت" الذي لا أعلم أين هو مع ما ذكر لي أنه يقيم في القاهرة وقام "اسماعيل" بإلقاء الأسئلة وكتابة الأجوبة، وبعث بها إليَّ في الرياض مع صورة مع الشاعر ونشرتها في "الملحق الأدبي" وفي منزله طلب من "أحمد الصالح" ان يقرأ عليه بعض قصائده، وأتذكر مما قاله ان أحمد شاعر لديه إحساس مرهف، وتلقائية شاعرية تمنح شعره هذا الصدق، وأنه إذا لم ينقطع عن مداومة الكتابة سوف تنضج تجربته، وقال إن الشعر في الجزيرة العربية له خصوصيته الدالة عليه من بيئته ومورثه الضخم، ولديك الفرصة ان تستفيد من هذه الميزات وهذا التراث، وقال إن اختيارك لاسمك "مسافر" جميل فهو اسم شاعري، واتذكر من الملاحظات التي لفتت انتباه الشاعر "صلاح عبدالصبور" استعمال أحمد للنقاط والفواصل في قصائده وقال له إنك يمكن ان تستغني عن معظمها، خصوصاً وان شعرك له وقفات القوافي.
اللقاء الثاني كان مع الشاعر الراحل "أمل دنقل" في دار الأدباء بشارع "القصر العيني" وصلنا إلى الدار قبل وصول أمل وحينما جاء بادرنا بضحكته المشروخة، قائلا لقد اهتديت إلى مكانكما بدون عناء فقد دلتني عليكما هذه الرائحة الجميلة التي تعبق في المكان وكانت خيطا تتبعته فدلني إلى مكانكما وكنا قد وضعنا رائحة من "الأودو تواليت" وأتذكر أنها كانت من نوع "الفجّي" المخصص لاستعمال النساء ولجهلنا حينذاك كنا نخلط بين ماهو للرجال أو للنساء، وكله عند العرب "عطر" كان قد صدر لأمل دنقل ديواناه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" و"تعليق على ماحدث" وقد بدا من خلالهما شاعراً مكتمل القوام، له شخصيته المميزة، وملاحظته حينما رأيته لأول مرة أنه شخص لا فرق بين شعره ومالاحظته الحادة، وكانت عيناه السوداوان الواسعتان تشعان منهما الدهشة والترصد للحدث قال "أمل" موجها حديثه "لأحمد" أنت من بلاد ارضعت الشعراء الشعر، ولابد ان يكون وهج ذلك الشعر فيكم أنتم شعراء تلك الأرض، نحن امتداد لكم فنحن منكم نسلاً وشعراً.
كان صباحنا في القاهرة بين المكتبات، نجول فيها، ونعود بأحمال من الكتب، ومساؤنا مع الكتَّاب والأدباء في حوار ونقاش، وما بين الوقتين، نقلب هذه الكتب ونقرأ ما فيها لقد تجمع لدينا "حمل" من الكتب، دون ان نفكر فيما بعد، كيف نحمل هذه الكتب، وكيف نصل بها إلى "الرياض" كنا نقتني من كل كتاب نسختين، إلا فيما يكون لأحمد رأي ولا أعلم حتى الآن كيف اقتسمنا هذه الكتب فإن كان يتذكر ان لدي كتباً له فمازلت احتفظ بها وله الحق فيها.
حفلت تلك الرحلة بكثير من الطرائف وربما اعود إليها بشكل ما فيما أسجله وخلت من المنغصات ما عدا ان أحمد أصيب بحالة مفاجئة من الانفلونزا في الاسكندرية ولذلك لم نبق فيها أكثر من ثلاثة أيام كنا نهدف إلى لقاء نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وقد تم اللقاء مع "محفوظ" في القاهرة وهو السبب في تأجيل عودتنا إلى الرياض حتى قدومه من الاسكندرية في التاسع من اكتوبر.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved