الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 21st August,2006 العدد : 167

الأثنين 27 ,رجب 1427

الإمام محمد عبده..ولادة المثقف الحديث (2-12)
في معنى الثقافة ودور المثقف
د.عبد الرزاق عيد

إن المتلقي الذي راح يتشكل في الربع الأخير من القرن التاسع عشر أخذ يخلع عباءة (العامة) مع التعليم الحديث ويلبس بذة (المواطن)، ولذا فإن محمد عبده في أزمنة سابقة للحداثة لم يكن يأبه إلى (العامة) كمستقبل ومتلق للخطاب، ليس فقط بسبب العامية المتفشية في (العامة)، بل بسبب أن العامة لم تصبح طرفا سياسيا معترفا به إلا مع ولادة (العقد الاجتماعي) الذي يجعل منهم طرفا أساسيا بوصفهم ذواتا حرة قادرة على الولاية على نفسها من خلال مبادئ وطنية حقوقية دستورية تعتبرهم كمواطنين (شعبا - أمة) هم مصدر السلطات بعد قيام المجتمع المدني كرد على المجتمع التقليدي الطبيعي الأبوي لإعادة بناء السياسة على أسس غير دينية غير ارستقراطية، أي لا ترتبط بتكليف إلهي، حيث الانتقال من السلطة الإلهية أو الملكية الوراثية، إلى السلطة الشرعية التي تعبر عن السيادة الشعبية الجمعية.
وهذا هو عنوان الانتقال إلى الحداثة السياسية، التي شكلت فحوى المشروع السياسي الدستوري الديموقراطي للمثقف الحديث الأول محمد عبده، حيث العمل على مستوى المجتمع المدني والقيام بعملية تربية طويلة الأمد على مستوى الوعي العام بهدف التعبئة التدريجية ثقافيا وفكريا وتربويا -(التربية) شاغل مركزي في مشروع الإمام - من أجل بلوغ المجتمع الديموقراطي بالضد من رأي الأفغاني الذي كان يراهن على التغيير الراديكالي الانقلابي تقوده نخبة مثقفة، شجاعة، وبالضد من ثورة عرابي الذي وقف منها محمد عبده موقفا حذرا، بغض النظر عن اضطراره للانخراط فيها ومن ثم نفيه، لكن حذره وتردده برهنت الأحداث اللاحقة على صحته.
لقد كان خط الأفغاني - رغم تشبعه الفلسفي بالتصوف - أشبه بالخط اللينيني -كما سنرى لاحقا - الذي يعتمد الخط الاحترافي الانقلابي، المعبر عن إرادة نخبة احترافية شجاعة ومنظمة تأتي على عمارة السلطة للقبض على جهاز الدولة.
بينما كان محمد عبده يشابه الخط الغرامشي لاحقا، وهو الخط الذي يراهن على الهيمنة الفكرية على وعي المجتمع في وجه السيطرة السياسية على أجهزة الدولة، وعلى هذا فإن المراهنة تتأتى من خلال الضغط التدريجي للمجتمع المدني الذي اكتسب التربية السياسية الحقوقية والوعي الدستوري لممارسة الهيمنة الفكرية - الاجتماعية، مقابل الدولة التي تتجلى فيها وظيفة السيطرة والإدارة السياسية، في حين أن الهيمنة تتطلب دور الفكر وتربية الرأي العام، ومن هنا أهمية دور المثقفين، ومن هنا أهمية ولادة المثقف العربي الأول الذي يدفع ضريبة الانخراط العميق في الشأن العام سجنا ونفيا وإبعادا.
تعيد الدراسات المهتمة بتاريخ الفكر إلى أن الأصل البعيد لسلطة المثقف يعود إلى أفلاطون الذي أسس لفكرة الحاكم: (المفكر - الفيلسوف)، وقد جسد الاسكندر الأكبر هذا الحلم في صورة توحيد العالم التي تتجاوز الجنس والعرق والبيئة تحت قيادته، بينما الصورة الحديثة لسلطة المثقف تشكلت مع مثقفي القرن الثامن عشر، فكانت الثورة الفرنسية بمثابة برهان للبعض الذي اعتقدوا أن المثقفين هم قادة هذه الثورة.
وأعقب مثقفي الثورة الفرنسية، مجموعة من المفكرين، وفي القرن التاسع عشر ظهر ما عزز هذه النظرية عن سلطة المثقف التي تغير العالم من خلال هيغل ونيتشه وماركس، الذي مهدوا بفلسفاتهم لنظم شمولية وسمت لاحقا القرن العشرين بميسمين طبعاه بهما وهما الشيوعية والنازية.
وكرد فعل على هذه السلطة الغاشمة للمثقف المالك للحقيقة، والموجهة للرأي العام، والمتحكم بإرادة السيطرة للدولة الحديثة ذات القوة (المغفلة - غير المرئية) التي التهمت الذات الفردية بجوف كلية جماعية منظمة وممنهجة في نزع الشعر والفن والأحلام عن وجه عالم يلتهم الخصوصيات، ويدمر الأنثربولوجيا.
فراح المثقفون (الفلاسفة الجدد) يشنون معركة تجريد المثقف من سلطة (التفكير نيابة عن الآخرين) حيث داعية الالتزام جان بول سارتر نفسه يقول: (إن المثقف في طريقه إلى الاختفاء، ذلك الذي يفكر في مكان الآخرين: إن التفكير نيابة عن الآخرين سخف يبطل فكرة المثقف ذاتها). وهذا الرأي سيعم رداً على اخفاق قيادة المثقف لأحداث 1968م إذ سيردد ميشيل فوكو الأطروحة ذاتها قائلا: (إن المثقف محكوم عليه أن يختفي من الأفق باعتباره إنسانا يفكر بدل الآخرين).
بل راح الفكر الغربي مع الفلاسفة الجدد يعيد النظر بقراءة تاريخ الأفكار، من خلال هذا المنظور الذي يشكك بدور المثقف وسلطته التي لم تجلب للبشرية سوى ايديولوجيات الهيمنة الشمولية الكبرى، إذ إن ما سمي بفلسفة (الأنوار) قامت بعملية بسط لجبروت سلطان العقل الذي تحول إلى ستار يخفي وراءه إستراتيجيات القوة وقناع يستر ارادة السيطرة.
وسيبعد هابرماس عن حقيقة فلسفة الأنوار التي تغلف نزوع السلطة عند المثقفين (انه تحت عالمية فكر الأنوار، تحت المظهر الإنساني لمثل الانعتاق، وتحت صرامة النظم العقلانية: هناك إرادة قوة لا تتزعزع سرعان ما تنزع عن وجهها القناع كلما تهيأت النظرية إلى أن تتحول إلى ممارسة، بحيث ينكشف من تحت القناع طموح الفلاسفة أئمة الفكر إلى سلطة، سلطة المثقفين، وسطاء تبليغ المعنى... انطلاقا من هذه المراجعة لتاريخ دور المثقف والتشكيك برسالة المعنى تحت اسم الأنوار والعقلانية التي تبدو كقناع لإخفاء إرادة القوة والسيطرة ستتم عملية إعادة اعتبار إلى سقراط وكانط بل وموسى وديكارت، فسقراط لأنه طرح السؤال الفلسفي الأصلي الدائر حول أسبقية الذات ومعرفتها، وضرورة تأسيس السياسة على الأخلاق، وكانط لأنه المنظر الفلسفي لحقوق الإنسان، ولأنه اعتبر الإنسان غاية في ذاته، وموسى لأن أبرز هؤلاء الفلاسفة الجدد هم يهود، وديكارت لمنهجه التحليلي النقدي، الذي وإن أقام بناء المعرفة على العقل، إلا أنه بناء قابل لإعادة النظر والتفكيك في كل حين.


abdulrazakeid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved