الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 21st November,2005 العدد : 130

الأثنين 19 ,شوال 1426

خطاب الأنا العربية بين التقليل والتضخيم
(قراءة في وعي الشخصية العربية) «2»
سهام القحطاني
إن دلالتي الحياة والموت في فلسفة وعي الشخصية العربية ما قبل الإسلام، تقتربان من بعضهما بعضاً، حتى يكاد فاصل التجاوز يبدو - كخط الاستواء - وهمياً؛ من أجل نظرية منطقية؛ فالتمسك بالحياة ضعف بشري في تلك الفلسفة لذا يوصف بالجبن، واقتحام الموت قيمة علوية للفرد تفتح له باب التاريخ والخلود، ولعله منطق استقى وعي الشخصية العربية فلسفتها من خلال الحروب الدائمة وتمجيد قانون الثأر؛ لذا كان العرب يتنافسون على الموت في ميادين الحرب، فالموت في هذا المكان شرف يسعى له الجميع؛ فهو يحمل مفهوم البطولة والفروسية حيث (يموتون طعنا بالسيوف والرماح، وحيث تتناثر أشلاؤهم وتأكلها السباع، حتى يخلدوا في سجل قتلى الجاهلية المجيد، يقول الشنفري:
لا تقبروني إن قبري محرّم
عليكم ولكن أبشري أم عامر
ويقول تأبط شرا:
قليل غرار النوم أكبر همّه
دم الثأر أو يلقى كميّا مسفّعا
إن العصبية كقيمة انتمائية لدى العربي قبل الإسلام، أورثتهم الجاهلية، كما وصفهم القرآن الكريم في قول الله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}، ومعنى الجاهلية مشتق من الجهل، وهي طبقا لمدلولاتها اللغوية تدور حول النزق والإسراع إلى الشر والطيش والغضب والهمجية، مناقضة في ذلك مدلول (الحلم). يقول الشنفرى من لاميته المشهورة:
ولا تزدهي الأجهالُ حِلْمي، ولا أرى
سؤولاً بأعقاب الأقاويل أُنْمِل
وقول عمرو بن كلثوم من معلقته الشهيرة:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلين
ولا شك أن هناك ملامح مواطنة لكل من ينتمي إلى القبيلة، منها احترام قانون (الثأر) شريعتهم المقدسة، الذي يخضع له الجميع، فحياة العربي قبل الإسلام ظلت حياة حرب وسفك دماء و(كانوا يحرّمون على أنفسهم الخمر والنساء والطيب حتى يثأروا من غرمائهم) - أحمد شوقي (العصر الجاهلي) ص34 ولم يكن لفرد القبيلة الحق في أن يناهض هذا القانون أو يرفضه، وهنا يخضع وعي العربي لوعي القبيلة، وتتوارث الثارات بين القبائل وتمتد لسنوات طويلة، وكانوا يستنكرون قبول الدية حتى يهلك الجميع، ويقول الشاعر عبد العزى الطائي رافضا الدية ولا يجد سوى الدم شافيا لكرامتهم:
إذا ما طلبنا تبلنا عند معشر
أبينا حلاب الدّر أو نشرب الدما
وتتعدد أسباب هذه الحروب؛ فمنها النزاع بين بعض الأفراد في قبيلتين مختلفتين، وإما بسبب قتل أو بسبب إهانة، أو بسبب اختلاف على حد من الحدود، وحينئذ تشتبك عشيرتا هؤلاء الأفراد، وتنضم إلى كل عشيرة عشائر قبيلتها، وقد تنضم أحلافها، فتنتشر نيران الحرب بين قبائل كثيرة، ويصور الشاعر هذا الأمر في قوله:
الشيء يبدؤه في الأصل أصغره
وليس يصلى بكل الحرب جانبها
والحرب يلحق فيها الكارهون كما
تدنو الصحاح إلى الجربي فتعديها
أما زهير فيصور الحرب بقوله:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجّم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
تضر إذا أضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها
وتلقح كشافا ثم تحمل فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
مع قراءة في وعي الشخصية العربية قبل الإسلام أو تأمله أو حتى محاكمته، لا بد أن نضع في الاعتبار أنه وعي منتج من قبل تربية تتسم بالعنف، فالصحراء بقسوتها وجبروتها كانت المعلمة الأولى لذلك الوعي وكيف يتعامل مع العنف ويكتسبه، تمهيدا لباقي مستويات التعلم، وهذا ما كان يدفع القبائل في الحواضر إلى إرسال أبنائهم للصحراء لتعلّم اللغة والرعي، ليتقابلوا مع الصحراء وتشكّل طاقة العنف داخلهم، كما أن رياضة الفروسية ومصاحبة النياق ومهنة الرعي كانا المستوى الثاني لتدريب ذلك الوعي على أنشطة العنف وترويض جماح القوة الأعلى من قدرة الإنسان، إضافة إلى شريعة الثأر كمنهج تربوي استضماري يحقن به ذلك الوعي، إضافة إلى مفهوم الحرب.
إن إيماننا بالأشياء أو عدمه مرتبط بالقيم أو متضاداتها التي يقدمها لنا ذلك المفهوم، ومفهوم الحرب عندما يخزّن داخل مستودع الوعي، كقيمة شرف، وقيمة دفاع، وقيمة شجاعة، وقيمة بطولة، حينها يخرج ذلك المفهوم من معناه العام (العنف - الإرهاب) إلى معطى استعلائي، وأعتقد أن فلسفة المفهوم هذه ظلت تتكرر عبر العصور العربية، مع تغير الطرف الآخر، الذي انتقل من القبيلة غير الحليفة في العصر الجاهلي، إلى الكفار في العصور الإسلامية، إلى إسرائيل، في العصر الحديث، ثم عادت الدائرة لتكرار معيار العدو (الكافر) مع حركة الإرهاب، وهو أمر بدهي، أقصد تكرار فلسفة مفهوم الحرب، ألا يقولون إن التاريخ يعيد نفسه، ولهذا تميز العربي عبر عصوره المختلفة بطاقته العليا القتالية والجهادية والإرهابية، طاقة يبدو أن التركيز عليها امتصّ طاقاته الفكريّة، لأن التعودّ على التنفيذ فقط، يعطّل باقي طاقات الإنسان.
إن طاقة العربي القتالية التي نسميها بلغة شعرية (الشجاعة) حولها الإسلام في ظل قانون (الاستخلاف) كونها القيمة الأهم والأبقى إلى طاقة منتجة ومنّجِزة، وبهذا تفادى الإسلام إشكالية (مجرمي الحرب) أي الجنود العائدين من قتال طويل، كما حدث في العصر الحديث، لجنود الأفغان العرب الذين تحوّلوا بعد طول قتال إلى (مجرمي حرب).
ويظل الملمح الأخير - فيما يتعلق بالحرب وتربية العنف، وهو المرأة، كانت المرأة تمثل الجانب الأضعف في فلسفة تربية العنف، وكان غير متاح لها استراتيجية تنفيذ تربية العنف داخل وعيها الشخصي، وكان إمكان استغلال هذا الضعف كسلاح ضغط على قبيلتها؛ من أجل انتزاع هذا الضعف كلما ظهر قانون (الوأد)، هروبا من الاحتمال المستقبلي لهذه الطفلة أن تتحول إلى رهينة وجارية أو بيعها لتعمل في البغاء، وكأن كان عليها أن تتحمل وزر وغباء وظلم وحمق الرجال.
لكن من الإنصاف أن نقول إن العرب ليس هم الفرادى في هذا الأمر - أقصد تربية العنف - فالرومان كانوا أشد عنفا من العرب وهم أول من سنّ الرياضات العنيفة، والفنون القتالية العنيفة.
وكنتيجة حتمية للقيم العلياوية لمفهوم الحرب، برزت قيمة البطولة، بل لعلي أزعم أنها استطاعت أن تغلب بقية القيم، وتفرض هيمنتها عليها.


............................................يتبع
seham_h_a@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved