الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 21st November,2005 العدد : 130

الأثنين 19 ,شوال 1426

مساقات
المفردات اللهجية المحرجة!
د. عبد الله الفَيْفي*

ويأبى الأستاذ الأديب عبدالله بن إدريس - يحفظه الله ويرعاه - إلا أن يحرّضني على مواصلة المناقشة اللهجية التي كنتُ بدأتها.. لكن تحريضه هذه المرة جاء في شكل استنفار لهجي، يقارن فيه بين مناطق المملكة، نجدها وجنوبها. حيث جاء في مقاله بعدد الجزيرة (12073، الثلاثاء 15، رمضان 1426هـ)، بعنوان «الفيفي.. والمفردات اللهجية المحرجة!!»: «وكان من غرائب تلك اللهجات التي لم نسمع بها في نجد أو الحجاز.. ما يجعل مدلولاتها في بعض تلك المناطق أو الأقاليم وخاصة في تهامة والجنوب.. متباينة كل التباين اللهجي عندنا في نجد - على الأقل - بحيث تجبرك على إطلاق (ضحكة مجلجلة) على تلك المفردات اللهجيَّة الغريبة.. التي لا يمكنك أن تفهمها إلا بشرح وتوضيح من أهلها المتعلمين».
ولستُ أدري إن كان الشيخ قد قرأ مقالاتي قبل المقالتين في العدد الصادر يوم 15 شعبان، والعدد الصادر يوم 7 رمضان، من المجلة الثقافية، وقد أشار إليهما، تحديدًا؟! لأن في تلك المقالات إجابات عمّا استغرب، لا أودّ تكرارها هاهنا، وفيها بعض أمثلة من مناطق لهجية مختلفة في المملكة.
ولقد ذكرتُ في تلك المقالات أن هناك حالة مشتركة من الاستغراب، وأن الضحك يظل متبادلاً.. و«أن ما يسمعه المرء في لهجة أخرى قد يبدو مضحكًا ومحرجًا، من وجهة لهجته هو، وتنبني على ذلك مفارقات طريفة. وقُلْ مثل هذا، أو أكثر منه، بين لغة ولغة. ولذلك فإن ضرباً من فنّ الكوميديا يقوم على تلك الاختلافات بين اللغات والمفارقات في الأفهام.»
والضحك لا يأتي ردّة فعل للاستعمالات وحدها، بل حتى لأسماء الأعلام، ولا سيما ذات الارتباط المحلّي، شديد الخصوصية، ولو شئت لصنّفت معجماً بتلك الكلمات العجيبة، لا بمقياس اللهجة فحسب، بل بمقياس الفصحى أيضاً. لكن هذه ليست بمهمّتي، ولا هي بقضية جديدة، ولا جديرة بالاستغراب أصلاً.
والهدف - على كل حال - هو هدف لغوي علمي، بحت، وليس إثارة نعرة لهجية، آن تجاوزها من الجميع. وما هي في الأصل إلا صنيعة ثقافة، ووليدة انقسام، ونتيجة اغتراب مزدوج، بين بيئاتنا العربية من جهة، وبيننا وبين اللغة العربية والتراث العربي المشترك من جهة أخرى.
والاستمرار في تبادل مثالبنا اللهجية - التي «تُضحك الثكلى»: من وجهة لهجة تلك «الثكلى» طبعاً - لا يخدم هدفا علميّا ولا وحدة وطنيّة، بل هو باعث تشويش لمعرفتنا بذواتنا، وبالآخرين من بني ثقافتنا، حتى إن تلك المعرفة قد تتقلص إلى الحدود الدنيا، فلا تتجاوز عند متعصبٍ قبيلته أو عشيرته الأقربين. وليس إلا بالعقل والعلم وحدهما نستطيع دائمًا الخروج من شِراك ثقافتنا المأزومة بموروثاتها ومورّثاتها التي تفرق ولا تجمع.
وقد أشار الأستاذ الفاضل إلى أنني كنتُ قد شرحتُ الكلمات التي ذكرها في مقالته، إلا أنني لم أشر إلى الكلمتين اللتين وضعهما بين قوسين داخلهما أصفار. وذاك صحيح، إذ كيف لي أن أدرك غيب تلك الأصفار؟! ثم أكّد أيضًا أنهما تعنيان في اللهجة الفيفيّة معاني ذكرها. مع أنني كنتُ قد بيّنت في مقالاتي السابقة اختلاف اللهجات الجنوبية، حتى في نطاق جبال فَيْفاء نفسها، وأشرتُ في (العدد: 126، 7 رمضان) إلى: «أن هناك اختلافات لهجية كبيرة أحياناً بين لهجات السراة، ولهجات تهامة جازان».
وأكّدتُ في مهاتفة الأستاذ التي تفضّل بها أن الكلمتين اللتين ذكرهما لا تستعملان في لهجات فَيْفاء، على الإطلاق. وإنما المستعمل في فَيْفاء: «دعا»، و«دقّ الباب».
أمّا القول إن الكلمتين - اللتين لم يذكرهما - تعنيان «أقذر أنواع الشتيمة بالنسبة (للغتنا في نجد)»، على حدّ قوله، فقد يكون صحيحاً. لكنهما لا تعنيان شتيمة، لا في اللهجة الجازانية؛ ولا الفَيْفِيَّة، ولا في اللغة العربية الفصحى! ولئن شاع في الأوساط الشعبية أن تُؤخذ لهجة ما مقياسًا معياريًّا لتصنيف بقية اللهجات - كما هي حالنا في كافة أعرافنا وتقاليدنا، غير البائدة - فما ينبغي أن تنتقل العدوى بنا إلى الأوساط الثقافية والعلمية أيضاً.
أمّا ما استغربه الشيخ من استغرابي الكلمتين؛ فلأنه سمعهما - كما ذكر - في سامطة أو أحد المسارحة، لا في فَيْفاء، وشتّان فَيْفاء لهجيًّا عن سامطة وأحد المسارحة! وأنا لم أزعم أنني باحث متخصص في اللهجات العربية، وإنما أنا باحث متخصص في اللغة العربية، هي مرجعي وهي حُجَّتي في تقريب الشقة بين لهجةٍ وفصحى.
ولقد لا أَتَّفِقُ مع تعميم الشيخ بأن الكلمتين مما يُستحَى من النطق به في لهجات المناطق الأخرى، في نجد والحجاز، بالضرورة، فهذا يتطلب مزيد بحث واستقصاء. ومهما يكن من أمر، فنحن لو أخذنا بمعيار التعارض بين لهجاتنا واستعمالٍ ما، لما استعملنا إذن بعض الألفاظ الفصحى أيضًا، ومنها ما هو وارد في كتاب الله الكريم! وهو حياء لا يتعلّق آخر المطاف باللغة، وإنما قبل هذا بما يحيط باللغة من أعراف سائدة، ومألوفات شكّلت أذواقنا وشخصياتنا، ولا سيما حين يكون الأمر بين عرب وعرب، أو إقليم وإقليم، وذلك لعقابيل ثقافية تاريخية لا تخفى، هي في الواقع جوهر القضية، بدليل أننا نُقبل على كل ما في اللغات الأعجمية من غرائب وعجائب إنْ نحن حاكمناها إلى لغتنا الأم - أو «الخالة» - ناسين تلك الحساسيّة المفرطة، أو قُل: ذلك الاستغراب المبيّت؟! إن التلاحم اللغوي الذي دعا الشيخ إليه لا خلاف عليه بيننا، ولكن التلاحم على الفصحى، لا على لهجة نجد ولا الحجاز ولا اليمن؛ فالفصحى هي قاسمنا المشترك، الذي لا تنازل عنه، ولا إقليمية فيه، ولا حياء منه؛ لأنه مبرأ مما لحق بالأمة من تشرذم معرفي، جراء العزلة والانغلاق، ومن هناك قيام سياجات وهميّة بين بيئاتنا، وأعرافنا، وعادتنا، ولهجاتنا الحادثة، تُفضي إلى نظرة عُليا إلى أنفسنا، ونظرة دنيا إلى الآخر المختلف! كما أننا قد اتفقنا ونتفق مع شيخنا في أن الفصحى هي غايتنا في البحث في اللهجات، إذ قلتُ في (العدد 122 ، الاثنين 8 ، شعبان 1426هـ، من المجلة الثقافية)، تحت عنوان «بين دراسة اللهجات والترويج للعاميات»: إنه يقع الخلط كثيرًا في الجدل الثقافي بين مشروعيّة دراسة اللهجات العربية علميًّا وبين الترويج للعاميّات ثقافيّا وإعلاميّا. فدراسة اللهجات ضرورة علميّة، وهي تَصُبُّ في مصلحة العربيّة الفُصحى نفسها. أمّا الترويج للعاميّة، فله مآرب أخرى، بعضها بريء، وبعضها مريب. وهو مريبٌ، لا بما يفتحه من فُرقة لغويّة، وانقطاع ثقافي فحسب، ولكن بما وراء ذلك من إحياء قِيَم فكريّة، وترسيخ أنساقٍ اجتماعيّة، ليس أول مؤرّقاتها ما يمسّ الدِّين، ولا آخرها ما يهدّد الوحدة الحضارية، بنزع ورقة التوت الأخيرة عنها: اللغة. أمّا لماذا أرى دراسة اللهجات أكاديميًّا ضرورة علميّة؟ فلأن اللغة العربيّة قد أُهْمِل منها أكثر مما سُجّل، وفُسّرت ظواهرها تفسيرات تُضْحِك الثَّكْلَى (الفُصحى!) أحيانا. فإذا كان (أبو عمرو بن العلاء) قد قال: «ما جاءكم ممّا قالت العرب إلاّ أقلّه، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير»، فإن اللغويين قد أهملوا كثيراً من ذلك القليل الذي جاءهم، استنادًا إلى مقولة أخرى لأبي عمرو بن العلاء نفسه.. بل لعلّهم قد أهملوا منه أكثر مما سجّلوا؛ لأنهم - جزاهم الله خيرًا! - قد أخذوا بمعيارٍ علميّ، لم يكن متاحًا في زمنهم خيرٌ منه. فاقتصروا على وسط الجزيرة، أو بالأحرى وسط نجد، إنْ في جمعهم اللغة والأدب أو في تقعيدهم، وأهملوا أنحاء الجزيرة الأخرى، شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا).
فجوهر المناقشة إذن، الذي سُقت مقالاتي من أجله، هو اعتراضٌ على أن نعزو ما لا نعرفه من لهجات جنوب الجزيرة إلى «الحِمْيَرِيَّة»، متّكئين عل مقولة أبي عمرو بن العلاء، التي ساقها ابن سلام الجمحي. وقد فصّلت القول في ذلك تفصيلاً في تلك المقالة، ثم التي تليها بعنوان «صورة الآخر المختلف: (مفاهيم عتيقة وخرافات حديثة)»، (العدد : 123، في 15 شعبان..)، ثم التي تليها بعنوان «لسانُ حِمْيَر ولساننا»، (العدد: 124، في 22 شعبان)، ثم الأخيرة بعنوان «العامي الفصيح»، (العدد: 126، في 7 رمضان): التي ختمتها بالقول: إن «دراسة اللهجات العربية هي في حقيقتها دراسةٌ للفُصحى، إنْ صحّت الغايات، وتجرّدنا عن الأغراض والأفكار المسبقة».
يبقى ما معنى الكلمتين «السريّتين» اللتين أومأ الشيخ إليهما، مستقبحًا ذكرهما، وهو مع ذلك يطلب مني شرحهما؟! ولست أدري كيف؟!
لا حياء في العلم، وليس هنالك ما يدعو لحرجي أو حرجه. ولو كان - رعاه الله - قد ذكرهما أصلاً، لما أغفلتهما في شرح ذلك النصّ، الذي رآه من غريب القول أو فاحشه. أمّا وقد آثر إسرارهما مرتين، فسأحيل القارئ المتسائل عنهما إليه! غير أنني هنا سأحيل فقط إلى مادة الكلمة الأولى في لغة العرب، المحفوظة في المعاجم اللغوية الحالية، مع العلم أن لغة العرب أوسع بكثير، وأن كثيرًا منها قد أُهمل، كما سلف. لنجد أن تلك الكلمة - التي نُسبت إلى سامطة أو أحد المسارحة، كنموذج على طرافة اللهجات الجنوبية - قد استُعملت في معانٍ عديدة على ألسنة العرب، بل اتُّخذت أسماء لأعلام، وألقابًا لمشاهير، من العلماء، والصحابة، والتابعين، الذين لم يكن منهم - بحمد الله - أحدٌ يمتُّ إلى سامطة أو أحد المسارحة بصِلة! فلقد سَمَّت العَرَب زُغْبَةَ وزُغَيْباً.
قال الدَّمِيرِيّ: هو لَقَبٌ لعِيسَى بْنِ حَمَّادِ بْنِ مُسلم التُّجيبيّ المِصْريّ، شَيْخ أَبي الحَجَّاج مُسْلِمٍ، وأَبي دَاوُودَ، والنَّسَائِيِّ، وابْنِ مَاجَه، روى عن رشد بن سَعْدِ، وعَبْدِ الله بْنِ وَهْب، واللَّيْثِ بْنِ سَعْد، مات سنة 248هـ. ووقع للسَّخَاوِيِّ في ترجمة مُوسَى بْنِ هَارُون القيسيّ أَنَّ أَحْمَد بنَ حَمَّاد التُّجِيبِيّ يقال له: زُغْبة. وأَحْمَد هو أَخُو عيسى. وفي التَّقْرِيب للحافِظ ابْنِ حَجَر أَنَّه لَقَبٌ لهما، ويقال: إِنَّه لَقَبٌ لأَبِيهما. وزُغْبَةُ: جَدُّ والِدِ المُحدِّثِ أَحْمَدَ بْن عِيسَى بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَلَفٍ الزُّغْبِيّ، وهُوَ مِنْ قَرَابَةِ عِيسَى بْنِ حَمَّاد المُتَقَدِّم ذكره. وازْدَغَبَ فلان مَا عَلى الخِوَانِ: اجْتَرَفَه كازْدَغَفَه. والأَزْغَبُ: الفَرس الأَبْلَقُ. والزُّغْبُبُ، كقُنْفُذِ: القَصِيرُ البَخِيلُ، كأَنَّ المُعْجَمَة لُغَةٌ في المُهْمَلَةِ. والزُّغَبُ كَصُردٍ: ما اخْتَلَطَ بياضُه بِسَوَادِهِ من الحِبَالَ، كالأَزْغَبِ. والزَّغْبَاء، تَأْنيث الأَزْغَبِ: جَبَلٌ بِالقِبَلِيَّةِ بكَسْرِ القَافِ، وضُبِطَ في بَعْض النُّسَخ مُحَرَّكَة. وأَبو الزَّغْبَاءِ: سِنَانُ بْنُ سَبعِ الجُهَنِيّ. ورجل، وهو أَبُو عَدِيّ الصَّحَابِيُّ رَضِي اللهُ عَنْه، تُوُفِّي زَمَنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْه. وزُغَيْبَةُ كجُهَيْنَةَ: مَاءٌ شَرْقِيَّ سَمِيرَاءَ. وعَبْد الله بْنُ زُغْبٍ الإِيَاديُّ بالضم: صَحَابِيُّ، نقله الصاغانيّ والحَافِظُ. وأَبُو الفَضْلِ نِعْمَةُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ بْن هِبَةِ اللهِ العَسْقَلاَنيُّ التَّاجِرُ، عُرِفَ بِابْنِ زُغَيْبٍ، مُحَدِّث، سَمِع ابْنَ عَسَاكر، ولد سنة 538هـ، دَخَل بغدادَ، وتُوُفِّيَ بمصرَ سنة 624هـ، قاله الإِمَام أَبُو حَامِدٍ الصَّابُونيُّ. وزُغَابَةُ بالضَّم: موضع قُرْبَ المَدِينَةِ، شَرَّفَها اللهُ تعالى، وضَبَطُوهُ بالفَتْح في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ، وضُبِطَ أَيضاً بإِهمالِ العَيْن. والأَزَاغِبُ كأَخَاوِصَ: مَوْضع في قَوْلِ الأَخْطَل:
أَتَانِي وأَهْلِي بالأَزَاغِبِ أَنَّه
تَتَابَعَ من آل الصَّرِيحِ ثَمَانِ
وزَغْبَةُ بالفتح: موضع بالشام. وزُغْبَةُ بالضم: قَبِيلَةٌ من العَرَب في المَغْرِب. وهو لقبٌ لمُحمدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الكِلاَبِيّ الزُّغَيْبِيّ الفَقِيه. روى عنه الأَشِيرِيّ. (يُنظر: الزبيدي، تاج العروس، (زغب).
وقول العرب: رَعَبَ الوادي بجَنْبَتيه، أي امتلأ ماءً، وقد قالوا: زَغَبَ، بالزاي والراء، والزاي أكثر. (يُنظر: ابن دريد، جمهرة اللغة، (برع).
وأنا أتساءل:
ألا يستحي هؤلاء ولا يتحرّجون من هذه المفردات اللغوية، رغم أنها باتت مما يُستحَى من النطق به في بعض اللهجات اليوم؟!
.. لنا في المساق الآتي مواصلة.


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved