Culture Magazine Monday  22/01/2007 G Issue 183
فضاءات
الأثنين 3 ,محرم 1428   العدد  183
 

كلمات للعابر 3
قبلة الموت
محمد علي شمس الدين

 

 

إنهم يسمونها في السيرك (قبلة الموت)، وهي في الحقيقة، قبلة الحياة، وهي القبلة التي ينالها لاعب السيرك، من رفيقته في الجهة المقابلة، وهما طائران على أعلى مسافة في الفضاء، وفي النقطة الدقيقة المحسوبة بين الموت والحياة، حين يندفع اللاعب بكامل قوته ممسكاً بالحبال، نحوها وتندفع هي ايضاً بكامل قوتها ممسكة بالحبال نحوه، وبعد اندفاعات عديدة، تزيد سرعة الطرفين، وتؤجج حماس التلاقي والالتحام، وعلى ارتفاع شاهق بعشرات الأمتار، تقذف اللاعبة بكامل جسدها تجاه رفيقها، بعد أن تترك الحبل الذي كانت ممسكة به، وفي تلك اللحظة المفارقة العالية القلقة المعلقة بين السقوط والالتحام بين الموت والعانق، يحدث هذا الالتحام الرائع، وتتم قبلة الموت، وهي في حقيقتها قبلة الحياة.

واحسب أن العشق، في الحياة، بين رجل وامرأة، يتم كما تتم قبلة الموت الحياة، في لعبة السيرك المذكورة، انه لقاء بل عناق بين طرفين، على شفير الهاوية، وينطوي على المخاطر الكبيرة التي تنطوي عليها المغامرات، والأحلام المجنحة، ولا يقبل من المغامرة بأقل من عناق الحياة، ولا يقبل فيه الخطأ عقوبة أقل من السقوط على الأرض الصلبة، والموت.

والحياة في الحب، كالموت، كلاهما انتصار، بل كلاهما ابتهاج بزواج الأجساد والنفوس كل على طريقته، فليس انسحاب العشاق المعاميد من ساحات اللقاء، وانطواؤهم العذب والموجع على أحلامهم أو وعود أنفسهم بجنة اللقاء المستحيل، بأقل نشوة من اقتحام العشاق الواصلين إلى محبوباتهم والوصال بهن وصالاً متحققا ومحسوما على الأرض لا في السماء، وبكامل الحواس والنفس، لا في المخيلة وبالجسدية عينها، لا بالجسدية المؤجلة.

لكن العلاقة في الحب، يشوبها عادة ما يشوب القلب الحسّاس النابض، من الخوف أمام الجمال، فكل جمال حقيقي ممتع ومخيف، وهذا الإحساس المركب تجاه كل ما هو جميل، نعاني توتراته في علاقاتنا بالنساء، وبالأشياء، بالأيام وتقلباتها، والطبيعة وعناصرها، وبالمجهول، وما يتم اكتشافه منه ايضاً، ليس في إمكان امرأة جميلة إلا تنطوي على شيء من الغموض، هو غموض السحر، وغموض السرّ، وغموض المجهول، بل لعلها أشبه ما تكون بالبحر، الذي تقف أمامه، وتنظر إليه، وتغوص في مياهه بقدميك وجسدك، بل تشعر أحياناً وأنت تظهر إليه، بأنك قادر على احتوائه والإحاطة به، وماذا عن هذا الإحساس يا تُرى؟ هو إحساس خداع بلا ريب، أن في البحر سراً يغور إلى أعماق الماء، وحشايا الزرقة المعتمة الهائلة، وليس في إمكان الغوّاص أن يدرك هذا السر، مهما غاص، وتوغل، وحتى إلى القاع ومناجم اللؤلؤ والياقوت وبقايا السفن المحطمة وعظام البحارين الراسبة إلى القاع، ففي خلايا الأعماق المائية، سر غامض شبيه بسرّ الأعماق البشرية، نحسه هكذا، ونستمتع بغموضه، من أجل ذلك، سر الجميل لا ينتهي، ولا ينتهك، وهو محفوف بالخطر الأكيد والخوف العارم. واللوعة التي تحيط عادة بالجمال، أو تسوّره وتكلله مثلما تسور الأشواك حديقة من الورود لا تفسد متعة هذا الجمال، أو تقف حائلاً دون الاندماج فيه، جسداً ونفساً الوجه الجميل يقل جمالاً في شحوبه، عنه في تورده بل لعلّ انكسار أجفان امرأة، أو دخولها في طقس من طقوس الحزن، يحرض الناظر إليها على الشغف بها أكثر وأكثر، والحزن يغلفها بغلافه الشفاف، مثلما يغلف ضباب قليل، ذؤابات الجبل ونتوءاته، فيجعله أقل انكشافا للناظر أو لمن يرتاده، وكان يغلف الضباب مدينة قريبة فيجعلها اقل قربا، وأكثر رؤيا، العلاقة بين الجمال والخوف، علاقة فطرية، بدائية، حسيّة، بمقدار ما هي نفسية، وقد كشف نيتشه فيلسوف القوة والمتعة، الألماني الكبير عن سر من أسرار اتصال التراجيديا أو المأساة بالموسيقي فرأى جذوراً موسيقية لكل مأساة، حتى لكأن الانسجام الكامل المتسم بالموسيقي لا بد أن تخترقه ذبذبات خفية وإعطاب من المأساة ذلك ما وضع عليه إصبعه غارسيا لوركا شاعر إسبانيا القتيل الدامي في المزج في أشعاره بين الديونيسية اللذية الفكرية، والعنف الدموي، وهو ما سماه الروح المبدع الذي يتجلى في الأناشيد وأغاني السيتا والفلامنكو على غيتارات الغجر تجليه في مصارعة الثيران وطقوسها الشعبية الفرحة والدامية، فأصل كل غائص في التربة التي نشأت فيها الحياة الأولى، قريباً من البراكين والحشرات والريح والليل المترامي الأطراف، إذ يعانق مجرتنا قوة تنشأ من أعماق الأرض وترتبط بمملكة اللاوعي المظلمة. ديونيسوس وباخوس معاً في المأساة.

في رباعياته من رباعياته الجميلة، يصف شاعر العامية المصري الراحل صلاح جاهين طول انتظاره للربيع لكي يرجع، وللجو لكي يدفأ والزهور تطلع من أكمامها، والطيور تغدر حرة طليقة في الفضاء، والينابيع تنطلق من عقالها والإنسان يخضر مع الطبيعة ويصبح يافعاً.

ثم ها هو الربيع عاد بالفعل بعارم شبابه، فما الذي جعل الشاعر يبتدئ بالفزع.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد
مواقع الجزيرة

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة