الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 22nd March,2004 العدد : 51

الأثنين 1 ,صفر 1425

مساقات
في الطَّبع والصَّنْعة!
د. عبدالله الفيفي

يدور الجدل حول مصدر الإبداع، بين أن يكون مصدره الإلهام الذي يتأتّى لذي الطَّبع أو الموهبة، أو أن يكون الحذق الفنّي الذي يتأتّى للمجتهد في تجويد عمله. وهو خلاف يدور بين الشعراء والنقاد قديماً وحديثاً.وإذا كان هناك من النقّاد من ينكر الإلهام مصدراً للعبقرية الفنيّة، كوليم موريس، أو محمد مندور، فإن الشعراء لا يكادون يتخلّون عن فكرة أن الإلهام هو المصدر الأول للتجربة الشعرية. حتى أولئك الذين عبّروا عن أن الشعر عَرَقٌ وجهدٌ شاقٌّ من الشعراء كشلي Shelley، وإدجار ألن بو E.A.Poe، وأندريه جيد، وكيتس
Keats، وكولريدجColeridge،
وسبندرSpender لاينكرون ضرورة الإلهام منطلقاً لشرارة العمل الشعريّ، وإنما هم يرون أن ذلك لا يكتمل بمجرد إملاءات اللحظة الإلهامية، بل لابدّ من الجهد الواعي لبلورة القصيدة من صورتها الأولى التي لا تخلو عادة من الغموض والالتباس إلى تشكّلها النهائيّ القادر على البقاء والتواصل.
وبعيداً عمّا أُلِفَ عن الشعراء من عُجْب بالذات وإضفاء هالةٍ من الخصوصية على أنفسهم وعلى مايصنعون ليمتازوا عن غيرهم من الناس، فإن طبيعة المادّة التي يشتغل عليها فَنّهم تجعل لفنّهم خصوصية حقيقية تبرّر دعواهم تلك.
ذلك أن صاحب فنّ آخر غير الشعر يمكنه أن ينكر الإلهام كما فعل المثّال الفرنسي رودان Rodin، الذاهب إلى أن الإلهام أكذوبة أو وهمٌ لا حقيقة له أمّا الشاعر الذي يتعامل مع أخصّ الخصوصيات الإنسانية، وهي اللغة، بما تعنيه من روابط لا حدّ لها بالذاكرة الشخصية والذاكرة الجمعية فحريّ أن يجد في نفسه مالا يعرف كنهه، ممّا قد لا يجده الآخرون في أنفسهم، وحريٌّ أن يدهش في لحظات وعيه لما وجدتْه نفسُه قبل أن يدهش الآخرون.
ولو لم يكن هنالك ذلك الباعث الخفيّ وراء إبداع الشاعر كما يزعم بعض النقّاد وبعض حرفيّي الفنون الأخرى لأمكن للصنّاع المجتهدين أن يتعلّموا إبداع ما يبدعه الشعراء المطبوعون فيبدعوا إبداعهم. وإذن لا تقاس العملية الفنّية في الشعر بعملية فنية لأي فنّ آخر، وذلك لخصوصية المادة المُشتَغِل عليها الشعر. (من شاء راجع مناقشة مسألة الشعر بين الإلهام و الصنعة لدى: بكّار، يوسف، بناء القصيدة في النقد العربي القديم في ضوء النقد الحديث).
وإذا لم يكن القدماء من النقّاد العرب قد عوّلوا على مصطلح (الإلهام) إلاّ قول (الجاحظ، البيان والتبيين): (وكل شيء للعرب كأنه إلهام)فإنهم قد عوّلوا مكانه على مصطلح (الطَّبع)، الذي يعني أن في طبائع بعض الناس ما ليس في طبائع بعضٌ آخر،وذلك ما يمنح الفئة الأولى من الطاقة الفنّية ما ليس لدى الفئة الأخرى. وكذلك لم يستعملوا مصطلح (الموهبة) وإنما شملوه مع (الإلهام) بمصطلح: (الطَّبع). وهم بهذا يَبدون أكثر اعتدالاً في نظرتهم إلى هذه المسألة. نعم، إنها مسألة طبعٍ لا مسألة إلهام؛ لأنها تتعلّق بالطبيعة الإنسانية نفسها لا بوَحْيٍ يُوْحَى إليها متنزّلاً من عَلُ؛ طبعٍ يتولّد نتاجَ عوامل موروثة أو مكتسبة، وليس وليدَ منبعٍ خارجيّ يَهَبُ للشاعر ما لا يَهَبُ لغيره. ومن ثمّ فهو يتصل بالطبيعة النفسية والذهنية الوراثية من جهة وبالتجربة الإنسانية من جهة أخرى. ولقد مال النقّاد العرب القدماء إلى احترام الطَّبع وازدراء الصَّنعة المسرفة والنفور منها، إذ تَكْشَف عن تعمّل صاحبها وتكلّفه وعَرَقه. وما ذلك إلاّ تمجيد منهم لصفاء الشعريّة من أدران النَّظْمِيَّة والافتعال. ومع هذا فقد كانوا يدركون ما للصَّنعة من أهمية لاستكمال ما يجود به الطَّبع من إلهامات. لأجل هذا يقول (ابن رشيق، العمدة):
(ولسنا ندفع أن البيت إذا وقع مطبوعاً في غاية الجودة، ثم وقع في معناه بيت مصنوع في نهاية الحسن لم تؤثّر فيه الكلفة ولا ظهر عليه التعمّل كان المصنوع أفضلهما. إلاّ أنه إذا توالى ذلك وكثر لم يجز البتة أن يكون طبعاً واتّفاقاً؛ إذ ليس ذلك في طباع البشر. وسبيل الحاذق بهذه الصناعة إذا غلب عليه حب التصنيع أن يترك للطَّبع مجالاً يتّسع فيه).
إن المسألة هنا أدقّ إذن مما دُرج على عَزْوِ آراء النقاد القدماء إليه من تعصّب للقديم ضِدّ الجديد المولَّد، أو من انتماء شفاهيّ لم يستوعب التجربة الكتابية بَعْد؛ إذ تتعلّق المسألة بطبيعة الشِّعْر، من حيث هو. تلك الطبيعة التي تخاطب مباشرة طبائع الناس، بما تنشده من تأتّ صادقٍ، نفسيّا وفنّيًّا، في إحداث استجاباتها الإيجابية لدى المتلقّي. وهو مسلك مرهف لايزيغ عنه الشاعر نحو الفكريّة أو الصناعيّة إلاّ أحدث ردّة فعله النابية في نفس المتلقّي. لأن المتلقّي يَنشد الشِّعْر للشِّعْر، وليس لمأربٍ آخر، من ضروب الفكر وأشكال التأمّل، ذات اللذات المختلفة الأخرى. وبرهان هذا أن الشِّعْر في العالم كلّه اليوم قد ترجّل عن تلك المطايا المتباينة، التي طالما حُمِل عليها، أو ربما حُمِلت عليه، ليتّجه إلى صفو الغنائية بمفهومها الواسع الحديث، الذي يَتسع للعالم من خلال رؤية الشاعر ووعيه الإنساني.
ونحن نتحدث في هذه الجولة من المساقات عن ألقاب الشعراء، كان لابدّ من تلك المقدمة للوقوف على ثلاثة مستويات في الممارسة الشعرية، عبّرتْ عنها بعض ألقاب الشعراء في العصر الجاهلي، هي:
1) الطبع، الذي يتكئ على الإلهام أو أول خاطر.
2) الصنعة.
3) الإفراط في الصنعة المفضي إلى التكلّف.
فلقد كان لقب (المهلهل) مثلاً يحمل التعبير عن المستوى الأول من الركون إلى أول بادر، دون عناية بالصنعة الفنيّة. مستهجنين هذا الاعتماد الصرف على الطبع. وقد تقدّم أن أحد الأوجه الإشاريّة للقب المهلهل هو: سخف النسج في شعره. وبالنتيجة رداءة شعره. قال (ابن منظور): (ويقال: هلهل فلان شعره، إذا لم ينقّحه وأرسله كما حضره، ولذلك سُمي الشاعر مُهَلْهِلا). فهلهلة الشعر إذن قد تكون لعجز الشاعر أو لإهمال الصنعة والرضا بأول خاطر. وهذا المستوى من الاعتماد على الطبع وحده مستهجن.
وفي المساق الآتي صلة هذا الحديث حول قضية الطبع والصنعة، وتلقيب العرب الشعراء بالنظر إلى هاتين الخصلتين.
مقام:
ولولا الشِّعْر ما كانتْ لُغَاتٌ
ولا اقْتَرَحَ الخَيَالُ مَدَى الطُّمُوحِ!


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
منابر
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved