الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 22nd May,2006 العدد : 154

الأثنين 24 ,ربيع الثاني 1427

صدامية الصورة وتقويض اللغة الشفاهية الشعبية
عبدالله الزهراني
كانت اللغة الشفاهية الشعبية عبر أزمنة متعاقبة وإلى وقت قريب نسبيا هي الناقل الأول لهيئة وحال الأشياء المراد نقلها، فالعائد من السوق يحكي مشاهداته، والعائد من الحج ينقل ما رأى، وكل آيب من غيبته يتحدث ومساحة الاستماع شاسعة بحجم الظمأ إلى المعرفة، واستكناه المجهول، والحاجة إلى الخبر، ويتم الحديث المحسوب فنا عبر قالبين: أولهما قالب جاهز يسير وفق نسق لغوي محدد، يتم وضع الحقائق المنقولة على متنه ويمرر كسير إلى وعي السامع، وهذا النمط لا يحتمل التفاصيل حفاظا على السبك، ويكون غالبا في المناسبات التي تجمع أناسا بينهم قطيعة جغرافية تتطلب تقديم أحوال الديار والمطر والزرع والماشية إليهم، ويكون المتحدث نائبا عن عشيرته، مكبلا بثبات الحقائق المنقولة مما يقلل من مساحة الحرية، وبالتالي يضيق مدى الإبداع فيه، أما النمط الأهم فهو الحديث المتنصل من القولبة والمنساب كنهر يجري لأول مرة، وهذا الأخير قد يدفع باللغة إلى آماد جديدة ويجترح السبل البلاغية المحدثة، ليضع السامع في قلب الموقف أو داخل موقف أكثر غنى، وكثيرا ما ألهم هذا الأسلوب صانع اللغة الشفاهية الأول تراكيب معبرة عن الموازي المادي الذي تنقله مما يراكم الأساليب المتنوعة للتعبير وبالتالي يكون المحرك لتطوير اللغة واستيلادها، ويتم هذا الأسلوب بواسطة شخص يتحدث عن تجربة شخصية لا نيابة فيها عن أحد، فهو أكثر تحررا من ضغط الجماعة ولديه هامش ممتد لا يحده سوى قدرته على التعبير الجيد.
وبانتفاء الحاجة إلى الإخبار الشفاهي، وانتشار الوسائل التي تمد الإنسان بما يحتاجه من معرفة يطلبها كل حسب هواه وحاجته، وبقاء إنسان اليوم متلقيا من فئة قليلة (فئة الإعلاميين) لكل ما يحتاج إليه من خبر تدعمه الصورة، ستكون الأساليب السابقة في موضع خطر على وجودها التام، إذ أصبحت الإحالة إلى الصورة أمرا ضروريا لا غنى عنه، وبسبب هذه الإحالة أصبحت اللغة الشفاهية تخسر يوما بعد آخر وتتحول من ناقل أساس إلى متمم وظيفي يعمل على هامش الصورة، فمن منا لا يستهلك مئات الجيجا بايتات من الصورة يوميا، تنسرب خلال وعيه وتشكله وفق خطة مرسومة أو بعفوية وارتجالية.
ولم يعد الكثير من الناس يجيد الحديث الشفهي الجيد، وأصبح الجيل المتقن للأساليب البلاغية الشفاهية في حكم البائد لتوقف النقل إلى الأجيال الجديدة التي تغرق يوما بعد يوم في جديد الناقلات، كناقل البلوتوث الذي أصبح كاسحا فكثيرا ما تُسأل حين تتحدث عن موقف ما، عن إمكانية وجوده على جهاز جوالك.
يقول نيتشه: (الفن أعلى قيمة من الحقيقة) هذه مقولة ثابتة لدى محبي الفنون بأنواعها، اختبروها،وثبت لهم أن الخيال الذي ينشأ بسبب التلقي عن طريق اللغة المكتوبة أو الشفهية أو الرسم يكون أجود من الواقع، مما يولد المزيد من الفنون عبر تدريب الخيال وحفزه، أما الصورة فإنها تكشف الأشياء عارية كما هي ولا مجال لتفخيمها ومفاقمتها مما يفقد الفنون أهم ما تقتات عليه، وهو النقص الذي يتممه خيال المتلقي، وأستثني مما سبق الصورة التي تكوّن مادة الأفلام السينمائية، والصورة التي تتقصد الفن.
وأظن الصورة المفهومية للأشياء لا تغذي من الصورة الفجة كما تنقلها وسائل الاتصال والإعلام الحديثة، حيث إن الصورة المفهومية القابلة لإعادة التكوين والتوظيف في سياق فني آخر، لا تكون مفهومية بمعناها الكامل إلا من خلال ناقل تجريدي بحت كاللغة، وقد أعجبني تساؤل لأروى الحضيف في مقال لها إذ تتساءل وتقول: ماذا لو كانت الكاميرا موجودة منذ بداية التاريخ؟
هل احتاج الإنسان أن يصنع كل هذه الآثار؟ هل كل تلك الآثار كانت مجرد صورة؟
وفي هذا الإطار يجب عدم إغفال الدور الذي تلعبه الفنون الفصيحة في إضعاف الأخرى الشعبية، ولكن يبقى لكل مجاله، فالشعبي يمتد في أفق لا يصطدم بشكل مباشر مع الفصيح، بعكس صدامية الصورة التي تعمل على التقليل من الحفاظ على الفنون الشفهية التي تستخدم الشعبي، ناهيك عن تطويرها، الذي كان في الماضي يتم بوتيرة متصاعدة، وتخسر كلتاهما (الفصيحة والشعبية) أمام الصورة بنسب متفاوتة، نلمس حدتها لدى الشعبي بشكل لافت، فلو تتبعت حديثا يدور في أحد مجالس الشباب، للمست لغة هجينة تحيلك إلى منتجات حديثة جدا تختزل الكثير من الدلالات التي تحيلك بدورها إلى مرجعية الصورة، مما يقلل الحاجة إلى التركيب اللغوي الجيد الذي يضمن فنية الحديث وأدبيته وإلهامه.
السؤال الذي يضع خلفه أقوى علامات الاستفهام: ماذا سيصنع البلوتوث الذي ينقل الصورة في المقام الأول؟ وماذا بعده؟


abb15d@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved