الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 22nd May,2006 العدد : 154

الأثنين 24 ,ربيع الثاني 1427

وداعاً مثقف الصحراء
سعد البازعي

هكذا أود أن اسميه ولا أظنه كان سيعترض وهو الذي آمن بعبقرية المكان وبحث عنها في عقل البدوي وبطون الأودية ثم سعى إلى تزويج الصحراء وثقافتها بثقافة العصر ومعطياته الفكرية والوجدانية.
عبدالله نور كان أستاذاً من أساتذتي الذين اعتز بأبوتهم الثقافية والفكرية مثلما تعتز بها نخبة من المبدعين والباحثين عن نور المعرفة ودهشة الإبداع. تعلمت منه أهمية عددٍ من الكتب في شتى فنون الفكر وأنا القادم بما ظننته خلاصة الحداثة الفكرية الغربية وما لم أكن أحتاج معه إلى مزيدٍ من المعلمين. كانت بداية ذلك حين دعاني ذات يوم بعد عودته من إحدى الرحلات، وكان ذلك في أوساط الثمانينيات الميلادية، وحين دخلت البيت كان يفرش على أرضية المجلس عدداً ضخماً من الكتب علق في الذاكرة منها اثنان: (حداثة السؤال) لمحمد بنيس، و(الفكر البري) لكلود ليفي شتراوس. ولم أكن قد قرأت لأي منهما، وازدادت دهشتي حين طُلب مني أن اختار من تلك الكتب ما أريد. أجل ما أريد!
ما اخترته كان بالطبع عبدالله نور نفسه، صديقاً وأستاذاً عرفته عن قرب وإن على مراحل متباعدة، ومتباعدة جداً، كما سيوافقني معظم الذين عرفوه عن قرب. فالنور كان متعذراً وميسوراً في الوقت نفسه. تطلبه وتسأل عنه أياماً وشهوراً ولا تعرف عنه شيئاً، ثم تفاجأ به هكذا وبلا مقدمات أمامك يعتادك يوماً أو يومين ليملأك بحضوره وليغيب بعدها أشهراً أو سنوات. رأيته آخر مرة قبل أربع سنوات تقريباً عند أحد الأصدقاء، ثم غاب ليتصل بي هاتفياً بعدها بسنتين واعداً بالزيارة كعادته، لكنه غاب، وغاب، إلى أن غاب حقاً وفجأةً.
جاءني غيابه على لسان محررة في إحدى الصحف، قيل لها ان تتصل ب(سعد البازعي) للحصول على تصريح بخصوص وفاة (عبدالله نور). وكانت تتحدث على أساس أنني أعلم بما حدث، لكنها أخذت بصدمتي المباشرة واستفساراتي التي لم تكن قادرة على الإجابة عن أي منها. لم تكن تعرف لا عبدالله نور، ولا البازعي الذي كلفت بالاتصال به، مع أنها في قسم ثقافي!!
لاشك لدي أن لوماً كثيراً سيلقى على عبدالله في تعامله مع نفسه ومع منجزه الفكري والإبداعي. فالموهبة الكبيرة التي حملها، والتي شهد له بها كل من عرفه في الداخل والخارج، هي التي عانت من البدد الذي كان سمة رئيسة من سمات شخصيته، الشتات الذي حمله وحُمل به حيثما ذهب، والشفاهية التي كادت تغلب عليه ميسماً بارزاً لعطائه. صحيح أن الشفاهية كانت هي معبره إلى العالم وإلى زرع نفسه في أذهان متلقيه ومعجيبه، لكنها كانت، شأن كل الشفاهيات عبر التاريخ، لعبة خطرة مع التاريخ ومع الثقافة، فهل كان عبدالله يلعبها وهو يدرك معنى ذلك؟ كان بالتأكيد يدرك أنه مطالب بإبقاء شيء من نفسه للأجيال، شيء مدون في الكتب وليس في الصحف السيارة، ولذا فقد كانت إجابته جاهزة دوماً: (لدي ستة كتب، أو خمسة كتب، وهي جاهزة للنشر، ومن بينها رواية (يعرف الجميع عنوانها فقط)، وأبشركم بأنني بدأت مؤخراً بالكتابة وانتظمت. لقد تغيرت كثيراً).
هكذا كان: طفلاً عملاقاً أسمر يطمئن والديه باستمرار وكلما ازداد الإلحاح بأنه صار أخيراً مؤدباً يؤلف الكتب ويتهيأ لنشرها، انه عاد إلى القراءة التي هجرها منذ زمن بعيد وأنه يعد العدة لمسيرة مختلفة. والعجيب في الأمر أنك تكون جاهزاً لتصديق تلك الكذبات الرائعة، ذلك الإبداع الذي تمارس من خلاله المشافهة خداع التدوين والضحك عليه.
أجل لقد رحل عبدالله نور دون أن يترك كتاباً واحداً باسمه، وترك بدداً من المقالات المهولة العدد بالتأكيد، لكن من سيلم كل ذلك، من سيحرره على النحو الذي يليق بعبدالله نور؟ ما هو الكتاب الذي سيليق بعبدالله، بصوته المجلجل، بملاحمه الجاهلية المتدفقة من تلك الذاكرة الخرافية، بضحكاته الجبلية العميقة الغور؟ أي كتابٍ سيحتوي معرفته بالرياض وبصحاري الجزيرة وباللغة العربية وبالشعر الحديث، وبارتجالاته حول بعض النظريات الحديثة التي تعرف أخطاءها ولا تملك إلا أن تستمع إليها معجباً لا تريده أن يصمت.
في عام 86 أو 87 ميلادية، لا أذكر تماماً، دعيت مع مجموعة من الكتاب، منهم محمد علوان وعبدالله الصيخان وآخرون، كلهم أصدقاء قريبون لعبدالله، لكي نشارك في أمسية قصصية في جيزان. ولم أكن حينها أعرف الكثير عن عبدالله على المستوى الشخصي، ففوجئت برفاق الرحلة يمرون على بيته ليأخذوه معهم. وكم دهشت وأنا أراه يركب السيارة دون حقيبة. كان عليه (بالطو) أسود ثقيل وحين وصلنا المطار فوجئنا أنه لم يكن يحمل أي أوراق ثبوتية، لكن بساطة الإجراءات في تلك الأيام (اللا إرهابية) يسرت السبيل. لكن كيف يسافر أحد دون حقيبة؟ وأمام دهشة السؤال، وحيرتي البالغة التمدن قيل لي إنه عبدالله نور يا دكتور!! ولكم شعرت بعدها، وأنا أسمعه يتحدث، بضآلة الشهادات وتواضع الألقاب.
رحم الله عبدالله نور، فقد كان شامخاً شموخ الجزيرة العربية، ومضيئاً كاسمه، ومتوهجاً كأخطائه، ومتدفقاً كشفاهيته.


albazei53@yahoo.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved