الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 22nd May,2006 العدد : 154

الأثنين 24 ,ربيع الثاني 1427

صديق الخوف والرعب
كنت أقطن في الرصيف المحاذي لمنزله في حي (المزرعة) الدمشقي، وكنت أتحاشاه، حين أصادفه عائداً من مشواره اليومي إلى (مقهى أبو شفيق) في الربوة على كتف نهر بردي، يضع سماعات آلة التسجيل فوق أذنيه، شارداً في عالمه الغرائبي. كان هذا في مطلع الثمانينات، وبعد عقد من الزمن، تعرفت إليه عن كثب: رجل بسيط، قروي، يشعر بالضجر فجأة، فيتحول إلى صاحب مزاج سوداوي، فيلجأ إلى سماع الموسيقى والأغاني القديمة (لدي أغنية (كيفك أنت) لفيروز، أهم من شعر البحتري).
كمحصلة لصداقة مديدة، أنجزت أول حوار شامل مع محمد الماغوط، وصدر في كتاب بعنوان (اغتصاب كان وأخواتها) فهذا الشاعر المتمرد، تمكن باكراً من كتابة معجم الجحيم، وخلخل بنية اللغة الرسمية، ذاهباً إلى تمجيد الهامش.
والكتاب مزيج من الأرشيف الشخصي للشاعر، والأسئلة الجديدة التي حاولت خلالها أن أرمم بعض الثغرات في سيرته الذاتية والشعرية، فاخترت أن تكون البداية من مسقط الرأس (السلمية) التي وصفها بقوله (كانت قرية نائية وباسلة، تنظر إلى وحلها ودخانها وعيونها المحمّرة، كما تنظر الفرس إلى أجراسها)، فالسلمية كما عنونت الفصل الأول (معقل القرامطة والمتنبي والوحل والبرد والأحلام).
إلا إن التجربة المثيرة في حياة صاحب (غرفة بملايين الجدران)،كانت دخوله (سجن المزة)، أو (متحف الرعب) في مطلع شبابه، وفي السجن، انهارت كل الأشياء الجميلة (لم يبق أمامي سوى الرعب والفزع فقط لاغير. وبدلاً من أن أرى السماء، رأيت الحذاء العسكري، وهذا ما أثّر على بقية حياتي. رأيت مستقبلي على نعل الشرطي).
هكذ ظل الخوف يرافقه إلى آخر يوم في حياته (السجن والسوط كانا معلمي الأول، وجامعة العذاب الأبدية التي تخرجت منها، إنساناً معذباً ،خائفاً إلى الأبد).
في السجن سوف يكتب قصيدته الأولى (القتل) على ورق السجائر، كنوع من المذكرات الشخصية عن حياة سجين، لكن هذا النص حين وصل إلى جماعة مجلة (شعر) في بيروت،
اعتبروه اكتشافاً مثيراً، فقدمه أدونيس مثل (رامبو) آخر، لكن الماغوط سرعان ما أحس بالضجر، في مناخ فكري لم يألفه، فشتمهم وغادر إلى أرصفته ومقاهيه، قائلاً (أنا شاعر أزقة ولست شاعر قصور).
حين أصدر مجموعته الشعرية الأولى (حزن في ضوء القمر) 1959، كانت مثل بركان مدمر، زلزل أرض الشعر، وأدخل القصيدة العربية إلى حقول غير مكتشفة، وقاد سلالة من الشعراء إلى عالمه الخاص، فلأول مرة تغزو القصيدة مفردات مثل الجوع والرعب والعبودية والضجر واليأس، بكل هذا العنفوان.
أهمية محمد الماغوط تتجلى في أنه كتب أنينه ووجعه بكل خشونة، من دون أن ينجرف وراء تيار ما، فقد بدأ وحيداً وانتهى وحيداً (كتبت كإنسان جريح وليس كصاحب تيار أو مدرسة).
اليوم حين نستعيد منجز صاحب (سأخون وطني)، سوف نكتشف أنه كتب كل ما رغب في كتابته باكراً، ولهذا السبب ربما توقف عن كتابة الشعر، بعد أن تمزقت حنجرته من الصراخ، فلجأ إلى المسرح والمقال الصحفي، لإشباع نهم آخر، من دون أن يبتعد عن بذرة الشعر، فهي ترقد باطمئنان في كل جملة كتبها، مثل نبتة صحراوية مجهولة الاسم، لكنها تشفي أمراضاً مستعصية.


خليل صويلح

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved