قصة قصيرة
حنين الماضي
حكيمة الحربي*
|
على غير عادته دخل المنزل دون ان يلقي التحية على أفراد أسرته..!! بخطوات مسرعة يمسح أرضية المنزل.. وقد تكسرت تحت أقدامه أعواد الشجيرات اليابسة التي أحدثت صوتاً لتطرد وحشة السكون في حديقة المنزل الفاخر الذي يقطنه مع أسرته.
دخل على عجل وكأنما ينتظر أمرا ما.. مهما لدرجة انه لم يبصر كل من حوله.. أو يلقي بالا للأصوات المستفهمة.
ماذا بك؟
خير إن شاء الله؟
ماذا حدث؟
ولج إلى الداخل.. حمل بعض الأشياء من غرفته.. وخرج بنفس السرعة دون ان يلتفت
صفق الباب بقوة.
لم يسمع إلا صوت صرير سيارته وهو يقودها بسرعة.
انطلق الساعة العاشرة صباحاً تجوب سيارته الطرقات.. انعطف يسارا.. وسار على الطريق المؤدي إلى خارج المدينة.. وبدأت روحه تنتعش شيئاً فشيئا.. وبدأ يفكك تقطيبة حاجبيه وتتبدد سحب كآبته.. وفتح نافذة السيارة فتسرب إليه هواء رطب منعش مشبع برائحة المطر وأخذ يدندن بأغنية قديمة.
وكأن الحياة عادت إليه مجدداً..!!
كان الطريق طويلاً.. وتمتد على جوانبه قرى متناثرة.. وبعضاً من الحيوانات السائبة التي تسابق السيارات إلى الاسفلت وتقف أمامها بتحد كبير.. ولكنه لم يأبه لها بل انه يجد الانتشاء والمتعة بمشاهدتها ويهدئ من سيره ليعطيها المجال للعبور والذهاب إلى الجانب الآخر!
الشمس سحبت ضفائرها.. واختفت خلف الأفق ليعلن الليل قدومه ولتزدان السماء بوميض النجوم التي انتشرت بشكل جميل بعيدا عن اضواء المدينة التي تحجبها وتمنع عيون ولهى من مسامرتها.. هو لا يزال شغوفاً بهذا الجمال الصامت.. مأخوذاً بالصحراء والنجوم والقمر الذي يحاول ان يظهر في ليلة اكتماله.. شعر بجذوة الشوق والحنين المستعر بين أضلعه لتلك القابعة بين الهضاب.. والتلال البعيدة.
خيل إليه انه يسمع صوتها تناديه.. وقد امتزج بنبرات العتاب.. وهتاف الحب.
أين أنت.. هل نسيتني؟
هل أغرتك المدينة بأضوائها وصخبها.. وحياتها؟
ألم تحن إلى الهدوء.. ومواطن الطفولة والصبا؟
افتر ثغره باسما.. حينما بانت له مشارفها.
تبدو وقد انعكس ضوء القمر على مبانيها الطينية القديمة ونخيلها كأنها أشباح ترقص على ضوء القمر!
أوقف سيارته بجانب جدار قديم متداع صفعته الريح.. وغرست الأيام اظفارها به حتى سقط الجزء الأعلى منه وأحدثت به شقوقاً.. وفتحات تسمح لذرات الرمال عبورها.. وللشمس اختراقها!!
أضاء مصابيح السيارة فبدا له.. منزل قديم من الطين وقد كسته الكآبة والبؤس.. وتغطى بعتمة الليل البهيم.. ترجل من سيارته واتجه إلى الباب وأدار المفتاح.. وانفتح الباب بعد ان احدث صريراً يدخل الرعب إلى النفوس!
أشعل المصباح وتناول عود الثقاب الذي أحضره معه وأشعل الفانوس.. فسبح المنزل بنهر من ضوء بعد ان أشعل بقية الفوانيس.. وما لبث ان تراجع إلى الخلف بعد ان أفزعه رفيف أجنحة تخفق أمامه فزعة من القادم وبعد ان اتضحت الرؤية وجدها بعض الخفافيش التي سكنت هذا المنزل المهجور.. بعد ان هجره أهله وتعلقوا بجسور المدينة وأدمنوا السير في شوارعها.. واغتسلوا بأضوائها البراقة ولكن هو بقي وحيداً لم تجذبه المدينة ولم تغره.. بداخله عشق سرمدي لقريته الهادئه.. ومبانيها البدائية القديمة منذ أن وطئت قدمه أرضها شعر ان هناك أطياف امن عشق تطوف به عوالم أخرى.. وتحلق به فضاءات الحلم والمنى.. وتتوق نفسه إلى معانقة هامات منازلها الشامخة.. المنتشرة بغير تنظيم.. وسماع أنينها بعدما هجرها سكانها!!
وقف على التل المواجه للقرية في ساعة غروب بعد ما نشرت الشمس وشاحها الأرجواني فوق الأفق وألقى بظلاله على القرية فأضاف إليها سحراً وشفافية وجمالاً.. فأصبح مأخوذاً بها.. ومبهوراً بسحرها واتخذ قراراً بألا يغادرها مهما كانت الاغراءات!
أسدل الليل ستاره.. وهو لا يزال قابعاً فوق التل معلقاً عينيه على النجوم والقمر.. وأطياف لا يراها أحد سواه!!
* عرفت ب«لميس منصور»
Hakema_h@hotmail.com
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
| 
