الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 22nd November,2004 العدد : 84

الأثنين 9 ,شوال 1425

مزيداً من العلم لكثير من عصابنا الثقافي
د. صالح زيّاد *
تتابع تأسيس جامعات وفتح كليات عديدة ذات طابع متآلف مع العصر في بلادنا، والارتقاء بمستوى تنظيمها وتأهيلها والبذل السخي عليها، يحيل إلى الإدراك لقيمة العلم والحفاوة به التي هي في العمق، حس واع بالإنسان من حيث هو طاقة بناء وإعمار تنتج المعرفة وتستهلكها في سبيل الاستنارة والإضافة إلى العقل والروح، وفي سبيل الكشف والاستشفاف لمعطيات الواقع في أبعاده التي تحوط ذلك العقل وتحفزه لاقتحامه والبصر به وإعادة تشكيله بما يخدم غرض البناء والإعمار في أقصى ما يترامى إليه حلم البشر في حياة كريمة وفاعلة. والعلم بمقتضى هذا التصور علامة دالة بوضوح على إيجابية المجتمعات وفعلها في المنظومة البشرية، وعلى حيويتها ووعيها بإطار العصر وأفق المعرفة الحديثة الذي يوالي في العالم إشعاعات آسرة ومذهلة كثيراً ما تطويرنا نحن في عالمنا العربي والإسلامي على أحاسيس نازفة بالإحباط والأسى ومثيرة لردود فعل عصابية، ثقافياً وحضارياً، تخاصم العصر وتفر منه، لأنها تستشعر عجزها عن الإسهام والتفاعل.
هذا الحس الذي يستبصر، في تقدير العلم والوفاء لطاقاته الفاعلة، دلالة أكثر وعياً بالدور الإنساني لصنع الحضارة، والدور المعرفي لبناء من يبني الحضارة ويشيد معمارها ويفتق للمستقبل طريقها.. هو الذي يقفنا على حدود تجاز الفهم البسيط والقنوع للعلم والعالم و المتعلم الذي نقيسه على انكسار حد الأمية وتعلم القراءة والكتابة أو كمية المحفوظ من المتون والمعلومات النظرية الناجزة، فذلك، وإن لم تنطلق من عقاله بالكلية بعض تصوراتنا وقيمنا المعرفية، هو حد أولي لما نعنيه، هنا، بهذه الحدود العلمية التي تأسست لها حديثاً الجامعات ومراكز البحوث، لتصنع، بمستوى إنتاجها المتجدد للمعرفة وعكوفها على البحث وتنميتها لأدواته واحتضانها للمشتغلين بهمومه الخلاقة، تلك الدلالة التي نصفها بأنها حضارية ومدنية وواعية بالعصر وبانية للمجتمعات الحديثة.
لقد حملت العلاقة بين التراث، بوصفه مكوناً جوهرياً للرؤية المعرفية، و(العلم الحديث)، قدراً من التوتر دار بالوعي العربي منذ مطلع عصر النهضة في مدار صراع شرس وبائس وذي دلالة على إشكالية مركبة ومتعددة المستويات والوجوه في الحياة العربية والإسلامية الحديثة.. فالتراث من وجه هو عنوان الهوية التي بدت مكتملة التكوين ومتجانسة العناصر ومختلجة بمجد الذات وشرفها المخصوص.. والحداثة العلمية والتقنية من وجه مقابل هي واقع العصر الذي بدا أجنبياً في فكره وأدواته وفي قضاياه وهمومه، بما يشكل خطراً على الذات والهوية في شكلها الناجز والمكتمل.
بدا السؤال في وعينا الحديث مربكاً: فكيف نكون في العصر ولا نتغيّر؟ وكيف لا نتغير ونكون في العصر؟. هنا اتجهت العلاقة بين الدائرتين إلى الانفصام وبدا المشهد قسمة غير متوازنة بين تصور تراثي وآخر حداثي، الأول: غارق في الماضي إلى أذنيه يرفض في أشد تجليات تطرفه العصر وثقافته وعلمه ومنجزه المعرفي، وهو إن أساغ الإفادة من نتائجه التقنية فركب السيارة والطائرة وشاهد التلفزيون، واستخدم وسائل الاتصال.... إلخ، فإنه وقف محجماً، وأحياناً فزعاً، أمام أفكار العصر ومناهجه العلمية وفلسفته المعرفية، التي لم يكن لتلك المنتجات طريق إلى عالم الأشياء بغيرها.. والثاني: بدا يستشعر الغربة والنفي، في مجتمعات لم تألف تكويناً معرفياً يتجاوز مألوفها وطاقتها الإداركية الهرمة، ولا يتيح نظام نماذجها الاجتماعية صيغة تحتفل بالعلم الحديث.
وبين الموقفين يمكن أن نفهم ضرورة تعميق الوعي بقيمة العلم المدنية والحضارية، وطبيعة العصاب الحضاري والثقافي الذي يدفع كلا من جهته إلى صيغ، فجائعية أحياناً، من الهروب والانطواء، ليست نتيجتها في النهاية أقل من تمزق ذاتنا وتلاشيها.


* الرياض جامعة الملك سعود
zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved