الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 22nd November,2004 العدد : 84

الأثنين 9 ,شوال 1425

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
الشعر ... سنبلة!!
بقلم/علوي طه الصافي

يختفي في النهار.. لكنني أراه في العصر في مكتب صديق الطرفين، شقيق الروح الأستاذ (علي العمير) بمكتب جريدة (البلاد) بالصفاة في الرياض ليأخذني معه بعد المغرب مشياً على الأقدام، لأنني حديث عهد بالرياض، وهو لا يمتلك سيارة، ليأخذني إلى حي (المرقب) حيث يعمل في مجلة (اليمامة).
لم يكن غامضاً، أو متغطرساً كما يبدو لك لأول وهلة، وفي بدايات معرفتك به فإنّ مظهره لا يوحي أنه (ارستقراطي) من أسرة ثرية، بل يوحي بأنه إنسان عادي أخذت منه الحياة أكثر مما أخذ منها، بل لم يأخذ منها شيئاً على الإطلاق، لكن الله رزقه ثروة كبيرة من القناعة، وإيماناً جعله يسخر في صمت ممن يركب (الروزرايس) و(المرسيديس)، والكاديلاك)، ويمتلك (الفلل)، و(القصور)، و(المباني) التي يسقط عقالك من الخلف إذا نظرت إلى أعلاها، ورزقه إلى جانب ذلك راحة البال، وطمأنينة الضمير، لشعوري بأنه راضٍ كلّ الرضا بما هو عليه.
قد يحلم، لكنه يحلم بصمت لا يخرج عن ذاكرته، وكثير من الناس يحلمون بصوت مرتفع مسموع، ورغم التقاء بعض حروف (الصمت والصوت) إلا أنهما متناقضان ومختلفان، كل منهما يطرد الآخر، الصمت حكمة وحِلْم بكسر الحاء وسكون اللاّم والصوت احتجاج حيناً، و(عنطزة) حيناً آخر!!
كنتُ أقرأ له شعراً هامساً تارة، وثائراً تارة أخرى، وأنا أبحث عن (جوانيته) بين (الهمس) و(الثورة).. أعرف أن هذه طبيعة وطبع الشاعر الذي يحترق كالفراش بين اللهب والصقيع!!
ورغم أنه (سنبلة) مثقلة بحنطة الجنوب في موسم ربيع يفترش بساطاً من الخضرة إلا أنه لم يدعني وأنا الضيف إلى وجبة (خضير) بالسمن البري، والعسل النقي الأصيل ليس بخلاً، بل هو الخجل لأنه يسكن مع أسرته في بيت من (الصفيح)، فهو يتستر بالستر، ويتأسى بالصبر!!
قد يحدثك عن الشعر، وإيقاع اللغة، وموسيقى البحور، تتفق معه أو لا تتفق معه سيان، لأنه لا يحب الدخول في جدل، ولا يثير غبار نقاش، لإيمانه بقاعدة تمسّك برأيك ما دمت تثق بصوابه، ودع الآخرين على ما لهم من آراء تخالفك!!
هل اطلتُ عليكم كما هي عادتي قبل أن أذكر اسمه، ليس لأنه لغز محير يحتاج إلى شيء من التفكير لحل رموزه، وتفكيك مفاصله، فهو أبعد من هذا، وعن هذا، يتميز برحابة ريف الجنوب، وقلبه كغله الناصع البياض الذكي الرائحة، ووجدانه كنسمة الجنوب التي غار منها شاعر على محيا حبيبته.
أمام كل هذه الدلالات وجدت نفسي منساقة ومرتاحة لإطلاق صفة (الشاعر السنبلة) عليه، وأرى أنني بهذه الصفة لا أستلفها، ولا أستوردها، بل أقطفها من حقلنا الجنوبي الذي مارس فيه (الصَّرب)، و(النصيد) واستلهم منه جل شعره.. إنه الشاعر الجنوبي الصديق (علي أحمد النعمي)، هذا الشاعر الذي لو مكث في الرياض وأضوائها الإعلامية لأصبح نجماً من نجوم سمائها ومشعلاً من مشاعلها، وعلماً من أعلام شعرائها!!
وإذا كان قد غاب عن هذه الأضواء لأنه يضيق بها، فقد كسبه جنوبه حيث عاد إلى مسقط رأسه، ومرتع صباه، ومرابع لعبه ولهوه مع أترابه يلعبون (المُسْحُر)، و(الاستغماية)، و(المُزقع)، وغيرها من ألعاب الطفولة العابثة اللاهية، وشقاوتها البريئة، بعيداً عن ضوضاء المدينة، ومبانيها الاسمنتية!!
عاد إلى (حرجة ضمد) بريفها الهادئ، ورملها الناعم، وسمائها المزدانة بنجومها النواعس، وقمرها المضيء بذؤاباته الفضية الحالمة، هذه الذؤابات التي تتسلل الخدور، و(العُشش)، و(الخداريش) دون إذن من سكانها الكواعب الأتراب!!
فهل استكان، وصمت قيثاره عن العزف على أوتار الشعر؟
يبدو لي أن الشعر حالة من المس الجني، أو السحري إذا تلبّس الإنسان حوَّله إلى (نموذج استثنائي) من الناس، نموذج لا يقول الشعر، وإنما يهذي به، يجعله يتناثر إلى شظايا تمشط الأمكنة والأزمنة!!
الشعر ارتحال إلى عوالم مجهولة، ورحلة ماجدة تهتك سجن الأفق، وتمزِّق أستاره وستائره، وتفضح أسراره!!
الشعر تصاعد نحو الفضاء لمناجاة كواكب غير معروفة، ومعرفة ما تخبئه في غياهبها، وما تحتضنه من مكنوناتها!!
الشعر كالمكوك، لكن دون أن يحمل مكوكيين من البشر، ينطلق بنفسه ولنفسه دون أجهزة تحكم، ودون رادارات أرضية!!
الشعر صنو العصافير المغرِّدة، وخدين الطيور المحلِّقة، ورفيق الشهب في لهيبها، وصديق البراكين الثائر منها والخامد!!
الشعر في (همس الجفون)، وخفقات الأفئدة، وتنهدات الصدور الملتاعة الحيرى مع السهد المكلوم، والأرق المحموم!!
الشعر في (مناغاة الطفولة)، في موجة بحر، ورقرقة جدول، وزفرات شاطئ مهجور، وفي زورق يختال يزهو، وفي سفين تجتاز البحار، وفي محراث مزارع ينبش الأرض ليطعمها البذور، وفي شبكة صائد أسماك، أو باحث عن محارات لؤلؤ في أعماق البحر، في صوت ربابة، وترنيمة مزمار، وأوتار كَمَان!!
الشعر، هذا هو الشعر، في هذا كله، وفي غير هذا كله!!
فهل يعقل أن يصمت شاعرنا (النعمي) وهو يعيش مناخ الشعر، وأجوائه التي لا مدّ لها؟
أيعقل أن تخبو شاعريته بين ألسنة هذا الحريق الهائل المتصاعدة دون توقف.. وهو شاعر؟
أيتصور أن تعتقل لسانه فيفقد صوته الشعري؟
أيتخيل أن تخفت ذاكرته الشاعرة؟
وهل يدور في الخيال أن تتقاعس مشاعره عن من وما حوله.. وهو الشاعر؟
لو استرسلنا في أسئلتنا لوجدنا أنفسنا في خضمها نبعد عن واقع الشاعر الأصيل الذي يعيش حياته بالشعر، ويحيا من خلال الشعر، ويتنفس شعراً شهيقاً وزفيراً!!
نعم ، هذا هو واقع شاعرنا (النعمي) بعد حصوله على الشهادة الجامعية في اللغة العربية من الرياض حاطاً رحاله في (حرجة ضمد) صرخته الكبيرة، ودهشته الأكبر.
لقد طرق بشعره مختلف الأغراض.
غنَّى لجنوبه الكبير بجغرافيته، المأنوس بأهله، الجميل بطبيعته!!
غنَّى لجباله، وغنَّى لأوديته وبطونها، وغنى لجباله وسفوحها، وغنَّى لسنابل مزارعها فاستحق منا لقب (شاعر السنبلة).
وتغنَّى بالأسرة، والعواطف الآسرة، وتغنَّى بالعشق والحب والهيام، وتغنَّى بالعلاقات الإنسانية، وعذوق (دخنها) كما تغنَّى بالمحراث و(الضِّمد)!!
يعد في قصائده من أصحاب (النَّفَس) الطويل، ذاكراً أن له قصيدة تتألف من (40) بيتاً، والشعر ينثال عليه كالوشل، فلا تستعصي القصيدة عليه، فإذا داهمته الفكرة يمسك بالقلم، ويسكب أبياتها على الورق.
إذا أردت أن تعرف الجنوب، وتضاريسه، وأهله، وطبيعته، وريفه فاقرأ شعر (النعمي).
لا أعرف عدد دواوين شعره المطبوعة، لكنني أعرف أنها لا تقل عن العشرة، غير المخطوط منها. ولأنه تزوج بأكثر من زوجة فقد كانت بالنسبة له تجربة وجدانية إنسانية اجتماعية صوَّرها في قصيدة من قصائده.
والوطن في شعر (النعمي) ليس طقساً من الطقوس، ولا منطقة جغرافية محددة، ولا تضاريس جبلية أو رملية، أو مائية.
الوطن عنده يتسع ليشمل كل مناطق المملكة ومحافظاتها، ويمتد في اتساعه ليشمل الأقطار العربية والإسلامية، وما يحتوي عليه هذا الاتساع من هموم، وقضايا، وشؤون وشجون!!
الشاعر الأصيل لا يتقوقع داخل محيطه الاقليمي المحدود، بل ينطلق بمشاعره الفيَّاضة، وأحاسيسه المتدفقة ليشمل الإنسان حيثما يكون، وأينما يعيش ويشتمل على الإنسانية جامعة الناس داخل هويتها الواسعة، وجنسيتها التي لا تُحدَّد ببطاقات، وجوازات لها أرقام وتواريخ، جنسية لا تخضع لقلمٍ معين، ولون، أو ألوان!!
والإنسانية هي في مشاركة الناس مشاعرهم، وأحاسيسهم، آمالهم وآلامهم، بهاجس حضاري يتجاوز عصر الجهل والجاهلية، وعصر عبودية الإنسان وقهره، وقمع إرادته، وحرمانه حريته، ومصادرة حقوقه الإنسانية، وحرمانه من التعبير عن آرائه.
من خلال هذه المفهومات أين يقع شاعرنا (النعمي)؟
سؤال نطرحه أمام دارسي وباحثي شعره في المستقبل!! لأنني أقرأ شعره بعين الصديق لا بعين الناقد!!
بعد غيبة عقدين من الزمن تقريبا دعانا الصديق الأستاذ (حجاب الحازمي) رئيس نادي جازان الأدبي حاليا إلى حفل غداء في (ضمد) مدينة العلم والعلماء والشعراء، وعلى رأسهم (ابن هتيمل) القرن السابع الهجري متنبي الجزيرة العربية، وكان معنا شاعر الريف الجنوبي كما يحلو لي تلقيبه الأستاذ الصديق (محمد علي السنوسي) رحمه الله، والناقد المصري الدكتور (أحمد كمال زكي) الذي جاء محاضراً في النادي، والصديق القاص (عمر طاهر زيلع).
في هذه المناسبة الجميلة التقيت بشاعرنا (علي أحمد النعمي) فوجدته ذلك الإنسان البسيط المتواضع الذي عرفته في الرياض، وكان أغلب الوقت كعادته يميل إلى الصمت، كأنه يفكر في صمته، ويتأمل في داخله، وينجذب مع شاعريته.
وكما قال شاعرنا في أغلب إن لم يكن في كل شعره في مختلف الأغراض، إلا أنني لم أقرأ له في (الهجاء) وهذه الروح يستمدها من طيبته العفوية الريفية، وله شعر في (الأخوانيات)، وهو حالياً إذا لم ينشر شعره في الصحافة، إلا أنه يفاجئنا من حين لآخر بديوان شعر جديد، ولا أتذكر أنه أعاد طباعة ديوان مرة ثانية لقدرته على تقديم الجديد الذي يعنى به نادي جازان الأدبي.


alawi@alsafi.com*
ص.ب (7967) الرياض (11472).

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved