الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 23rd January,2006 العدد : 137

الأثنين 23 ,ذو الحجة 1426

ورحلَ المعلَمُ الكبير..
صاحبُ ابن الريبِ مكموداً!!

محمد جبر الحربي
رحل المعلم الكبير يوسف الصائغ الشاعر والمسرحي والنحات والجيولوجي متعدد الطاقات والمواهب.. وهو صاحب (اعترافات مالك بن الريب) و(الاعترافات الأخيرة لمالك بن الريب), و(الباب) الفائزة بجائزة أفضل مسرحية في تونس أيام الحصار, و(المعلم) القصيدة المربدية التي اتفق الناس على روعتها, وشموعٌ لا تنطفئ من الأعمال المميزة..
وكان الصائغ قد لخص كل شيء تقريباً.. سيرته وسيرة وطنه في القصيدة الرائعة (المعلم) التي خرجت في ديوان جميل كبقية دوواينه بعد ذلك. فالمعلم, بطل القصيدة, الذي علمهم تهجئة البيت (وطني لو شغلتُ بالخلدِ عنه).. مات في القصيدة كما يروي يوسف, والمعلم الشاعر توفي في دمشق قبل أسابيع بعد أن أنهكه المرض, وهدّه الحزن, وانقطع عنه هواء بغداد, بغداد التي لم يحتمل رؤية ما وصلت إليه تحت الاحتلال, وهو الذي لم يتركها قط في أسوأ وأحلك الظروف, بغداد الشعر الذي ساهم في صياغته كصائغ ماهر مقتدر منذ الخمسينات بسيل من الدواوين المتميزة العميقة والقريبة من أرواح المتلقين والدارسين والنقاد.
وكان يوسف كعدد كبير من الشعراء العرب والعراقيين الذين عملوا على مشروعهم الشعري بعيداً عن الأضواء والمزايدات.. ولم يتركوا أوطانهم تحت بريق الشعارات, أو يستغلوا الظروف لخدمة أسمائهم, كما فعل عدد كبير من الفارغين الذين لمعهم الإعلام وهم لا يحملون أية قيمة شعرية أو تجربة يشار إليها خاصة في فترة التسعينات, فتوزعوا في العواصم وادعوا ما ليس فيهم. ولكنهم خبوا سريعاً، لأن لا نار داخلية لديهم, لا شعلة حق ولا حقيقة.
رحل الشاعر بسبورةٍ عرضها العمر حاول أن يكتب لنا عليها بالطباشير وبحروف كبيرة مفردات الجمال, وأن يعلمنا أناشيد الوطن والحياة والحب, أن يعلمنا أن حب الوطن من الإيمان لكي لا ننشغل بالخلد عنه, فسمع بعضنا, وتحول جزء كبير حتى من أصدقائه إلى باعة متجولين للقيم والمثل في عواصم الغرب. تعددت أدوات الصائغ وتنوعت مشاريعه وتوحد ألمه وأمله في رؤية القيم والقيمة العربية عالية, وفي رؤية الأوطان غالية لا يسترخصها الباعة في الطرقات الأجنبية.
مات الشاعر الكبير غريباً كابن الريب الذي اكتشفه مبكراً, مات وهو يردد أبياته فيما بغداده يقتل فيها كل فن, وتسرق كل تحفة, ويغتال كل عالم وفنان ومعلم مقتدر.
تزوج الصائغ وهو المسيحي من سلسل العاني وقد أسلم, والقارئ لكل أعماله سيلحظ الحضور القوي للتراث والقيم العربية الإسلامية حيث يستعيد جماليات الحضارة وصور أبطالها من مالك بن الريب إلى جهينة، حيث كان يكتب زاوية باسم جهينة إبان الحرب الإيرانية على العراق.
كان الصائغ وسيظل قصة حب, وقصة وطن, وقصة ثبات, فبالرغم من تعارض أفكاره, وسجنه المبكر, إلا أنه كان نسيجاً وحده, فلم يجعل من ذلك ذريعة للهجرة والاغتراب في العواصم الأوروبية.
كان الصائغ محباً لوطنه - أوطانه بشكل خرافي, مقتنعاً بالحب كوسيلة وعلاج: (ما تبقى هو الحبّ هذا رهاني الأخير) ارتبط اسمه ارتباطاً وثيقاً بمجموعة من الأعمال الكبيرة, ولكن المعلم كانت الأكثر شعبية وبقاء:
(قال لي.. تهجأ على مهلٍ.. إنها كلْمةٌ, ليس يخطئها القلبُ يا ولدي ففتحتُ فمي.. وتنفستُ.. ثم تهجّأتها دفعةًً واحدة:
(وطني) وأجاب الصدى: وطني.. وطني
فمن أين تأتي القصيدةُ.. والوزنُ مختلفٌ.. والزمان قديمْ؟!
كان صوتُ المعلم يسبقنا: (وطني لو شغلتُ)
ونحن نرددُ: (بالخلدِ عنهُ)
فيصغي إلينا, ويمسحُ دمعته بارتباكٍ ونضحكُ..
الله..
يبكي ونضحكُ.. حتى يضيقَ بنا
فيهمسُ: ما بالكم تضحكونْ؟! أيها الأشقياءُ الصغار
سيأتي زمانٌ وأُشغلُ عنهُ
وأنتم.. ستبكونِ
وزنان مختلفانِ.. وقلبٌ تقاسمهُ جدولانِ من الحبّ والضربِ
مات المعلم.. منذ سنين...)
نعم مات المعلم لكنه ترك لنا جداول من الحب والشعر والزهو والجمال أكبرها العزة والكبرياء.


mjharbi@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved