الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 23rd January,2006 العدد : 137

الأثنين 23 ,ذو الحجة 1426

شجرة الطفولة.. غابة الأدب «5»

د. صالح زياد
***
طفل الحرب
ازدواج دلالة (الحرب) على الموت والولادة، والوجود والعدم، ومتعلقات ذلك من الهجوم والدفاع، والنصر والهزيمة، يجعلها مركَّبة التكوين ومتعددة الدلالة على نحو معقد، والحديث عن الطفولة، في سياق الحرب، هو حديث تتضايف فيه دلالتان وتتحاوران لتفجير حزمتين دلالتين، تتجه إحداهما إلى رفد الحرب بمعنى الاستمرار والإلقاح والتوالد، من خلال دلالة الطفل على الخصوبة والتجدد والنماء، في نوع من طرافة وإثارة القلب الدلالي الذي يُلبس دلالة الموت في الحرب معنى الحياة، ويستمد من دلالة الحياة في الطفل معنى الموت المتجدد والخصب النامي!
أما الثانية فتتجه إلى إبراز دلالة الحرب على الموت والعقم والإمحال، من خلال استحضار الطفل بوصفه دلالة مضادة للحرب، تنجلي بضديتها سوءات الحرب وكوارثيتها المشؤومة، بما يجعل الطفل ذريعة سلم وداعية أمان، ويحيل دلالات الطفولة على الرفق والاحتواء والتشارك واستدرارها التعاطف الإنساني إلى مرآة تشف عما يناقض الإنسانية وما يتحيف نبل الحياة وضمير أخلاقها المتمدنة.
وسنقف على هذا الأفق الدلالي بشقيه، في الشعر الفلسطيني، تحديداً، بوصفه نموذجاً للتعاطي مع الحرب من وجهة المظلوم الذي لا يبحث عن انتصارات خارج مدار الضرورة، إذ الطفل، هنا، وقود الاستمرار والتجدد ومقاومة الفناء، فيما هو ضحية البطش والاحتلال والتهجير، وهو في الوقت نفسه، بطاقة الدخول إلى ضمير الآخر وإنسانيته لمخاطبة نوازعه إلى الأمن والسلام.
يقول توفيق زياد:
مثل غمض العين
خر عدنان صريعاً
شتلة من حبق أو فرع عُنَّابٍ
تهاوى وانكسر
وينتهي إلى القول:
أمه لم تبك
لكن همست في أذنه
شيئاً عن الحرية الحمرا
وعن أرض الجدود
...
ومضت تهتف كاللبوةِ
في وجه الجنود
إن في رحمي عدنان جديد
البداية تصف مشهد الموت (القتل): سريعاً، فاجعاً من جهة، وهو، من جهة أخرى، نهاية لعلامات حيوية عابقة بالشذا، ريانة، وواعدة (شتلة من حبق أو فرع عناب) وهي علامات طفولية تحيل إلى رصيد عميق في الذاكرة الإنسانية من مكونات دلالة الطفل التي تلخصها الحياة بكل دلالاتها الحسية والروحية، ليغدو الطفل، دوماً، عنوان الحياة الأشمل، ومن ثم يغدو الانطباع الأول لمطلع القصيدة صاعقاً وصادماً، إنه الموت، الذي يحيله وقوعه على الطفل إلى موت شامل، إلى فناء، لكن القصيدة تنقض هذا الانطباع بتنامي الحدث إلى دلالات الحياة المتجددة، فيكون الموت دليل التجدد وباعثه، من خلال استثمار ذلك التكوين الذي تحفظه الذاكرة جيداً في التقارن بين المرأة والطفل، فعدنان لم يمت؛ لأن أمه تهتف في وجه الجنود (إن في رحمي عدنان جديد).
عدنان الذي يموت ويولد في شعر توفيق زياد والشعر الفلسطيني إجمالاً، هو الطفل الذي يغدو - أيضاً - حلماً في القصيدة الفلسطينية، فهو عنوان الغد ودليله الذي يحيل لوعة الفقد وعذابات الاغتراب ونزيف الصمود إلى نبع دافق بالمعنى والقيمة لتأليف حس الوطن، واستمرارية الوعي باستلابه، والكشف عن وجهة العدوان والحرب من زاوية الطفل الضحية على نحو يمحو النهاية الطرفية لها من وجهة واحدة؛ لأنها، هكذا، حرب على المعنى الإنساني، إنها عدوان على المعتدي قبل أن تكون عدواناً على الضحية.
وفي هذا الصدد يبرز الطفل المعذب في شعر محمود درويش، حين يقول - مثلاً -:
لماذا أغني
لطفل ينام على الزعفران
وفي طرف النوم خنجر.
أو يقول:
وطني ليس حزمة من حكايا
ليس ذكرى وليس حقل أهلة
وطني ليس قصة أو نشيدا
ليس ضوءاً على سوالف فُلَّة
وطني غضبة الغريب على الحزن
وطفل يريد عيداً وقبلة
ورياح ضاقت بحجرة سجن وعجوز يبكي بنيه وحقله.
وهو الطفل الذي يغدو أمنية مشتركة، ترمز إلى السلام والأمل، بين الجلاد والضحية على حد سواء. فالجندي العدو يدخل إلى قصيدة درويش، ليكون في مدار بوح وحوار يشف عن الطفل الكامن في أعماقه، فإذا هو يبحث عن الحياة البسيطة: (أن يشرب قهوة أمه)، ويروي كيف بكت أمه قبيل وداعه بصمت، وكيف كانت تتمنى السلام، ويعترف الجندي للشاعر في آخر القصيدة، قائلاً:
أريد قلباً طيبا
لا حشو بندقية
أريد يوماً مشمساً لا لحظة انتصار
أريد طفلاً باسماً يضحك للنهار.
إن الطفل الباسم الذي يضحك للنهار، هو الطفل الذي ينام على الزعفران، وفي طرف النوم خنجر، وهو الطفل الذي يريد عيداً وقبلة،
أن تتمنى طفلاً يعني أن تدرك أن الطفولة بوابة الولوج للمعاني والقيم الإنسانية العليا في مدار المنافاة للعنصرية، والظلم، والكراهية للعنف والخوف والفجيعة، من لا يكترث لفجيعة طفل أو ذعره ليس معنياً، في المطلق، بأية قيمة إنسانية!
وهذا يقودنا إلى فجائعية كونية في مشهد طفل الحرب، الذي يصنعه محمود درويش لمحمد الدرة الطفل الفلسطيني الذي تسقطه وحشية العدوان، لتغتال في ذاتها قبل خصمها معاني الإنسانية، وتؤسس للفناء لا الحياة التي أغدقت القصيدة على معاني تشبث الطفل بها عبثاً:
محمد
محمد
يعشعش في حضن والده طائراً خائفاً
من جحيم السماء،
احمني يا أبي
من الطيران إلى فوق!
إن جناحي
صغير على الريح .. والضوء أسود
محمد
يريد الرجوع إلى البيت،
من دون دراجة أو قميص جديد
يريد الذهاب إلى المقعد المدرسي
إلى دفتر الصرف والنحو،
خذني إلى بيتنا، يا أبي، كي أعد دروسي
وأكمل عمري رويداً رويداً
على شاطئ البحر، تحت النخيل
ولا شيء أبعد، لا شيء أبعد
محمد
يواجه جيشاً، بلا حجر أو شظايا كواكب،
لم ينتبه للجدار ليكتب: حريتي لن تموت.
فليست له بعد حرية،
ليدافع عنها، ولا أفقٌ لحمامة بابلو
بيكاسو وما زال يولد،
ما زال يولد في اسمٍ يحمّله لعنة الاسم،
كم مرة سوف يولد من نفسه
ولداً ناقصا، بلداً ناقصا موعدا للطفولة؟
أين سيحلم لو جاءه الحلم والأرض جرح .. ومعبد؟
...
محمد،
ملاك فقير قاب قوسين من
بندقية صياده البارد الدم..
من ساعةٍ ترصد الكاميرا حركات الصبي
الذي يتوحد في ظله،
وجهه، كالضحى، واضح
قلبه، مثل تفاحة، واضح
وأصابعه العشر، كالشمع واضحة
والندى فوق سرواله واضح
كان في وسع صياده أن يفكر في الأمر
ثانية، ويقول: سأتركه ريثما يتهجى
فلسطينه دونما خطأ
سوف أتركه الآن رهن ضميري
وأقتله، في غد، عندما يتمرد.


Zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved