الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 23rd January,2006 العدد : 137

الأثنين 23 ,ذو الحجة 1426

المثقف العربي وخطابه
*علي العبدالله
طرح انهيار النظام العراقي أمام الغزو الأمريكي، وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على مصير العراق ومقدراته الاقتصادية، النفط بخاصة، تمهيدا للسيطرة على مستقبل الوطن العربي، أسئلة جادة ومصيريّة حول الدور الذي لعبه الخطاب السياسي العربي والمثقف العربي في سلوكه السياسي الذي انعكس في تعاطيه مع الاستحقاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في دفع الأوضاع العربية نحو هذا المآل الخطير.
لقد كشف هذا الزلزال الخطير مأزق الخطاب الفكري والسياسي العربي السائد، بعد أن برز عجزه عن تقديم إجابة محددة صريحة على سؤال العدوان، فالتيار الإسلامي قدّم، عبر رموزه، إجابات متباينة ومتناقضة حول تقديم العون للعدوان وحول قبول خيار قلب أنظمة ظالمة بالاستعانة بقوة خارجية، وحول الجهاد ضد الغزاة والتطوّع لمقاتلتهم والقيام بعمليات استشهادية ضدهم.
التيار الماركسي لم يكن أحسن حالا، حيث وجد نفسه أمام معادلة شديدة التعقيد، عناصرها مركبة: الداخل الخارج، الوطنية القومية، الديمقراطية... الخ فبارك بعضه إسقاط النظام الاستبدادي بقوة الغزو باعتبار أن إسقاط النظام الاستبدادي بقوى ذاتية بحكم المستحيل، مثيرا بذلك شبه التسليم بعجز بنيوي في الإنسان العربي، في حين رفض بعضه بشكل قاطع، حصر الاختيار بين الاستبداد والاحتلال، دون أن ينجح في تقديم مخرج من إسار هذه الثنائية، بتقديم إجابة عينية مباشرة. التيار القومي كرّر أطروحته التقليدية حول الأمة والاستعمار، التجزئة وتجزئة التجزئة، عبر سايكس بيكو جديدة وتقسيم المقسّم، دون إحساس بوجود مشكلة حول الأنظمة القومية وعجزها عن تحصين البلاد ضد الخارج عبر ممارسة سياسية وطنية تعلي من شأن الإنسان وتضع حقوقه على رأس أولوياتها، دون أن يستشعر المأزق الذي خلقته، والذي بدأ باستقلال عن الخارج وانتهى باستعمار داخلي، أنهى حرية المواطن وداس كرامته وحقوقه (فرح القوميون في السلطة للصمود الذي حصل في الأيام الأولى للعدوان إلى درجة تبرير القهر الداخلي، طالما هو يقاوم القهر الخارجي.
قالوا انظروا الاستبداد الذي تستهجنونه يقاتل دفاعا عن البلاد، وصمتوا بعد هزيمته صمت القبور). لقد وجد الخطاب الفكري العربي السائد - المؤَسس على الإطلاقية التي تعكس تبسيطية مفرطة، والمرتكز إلى استراتيجية (الكل أو لا شيء)، والذي لا يمارس النقد الذاتي أو يتقبله، والذي يفتقر إلى العقلانية ويحتقر التعددية - نفسه أمام حالة مركبة ومسالك متداخلة، كل مسلك منها يقود إلى منزلقات ومخاطر كبيرة، فانتصار التغوّل الأمريكي الذي يسعى إلى السيطرة على القرار الدولي وفرض برنامجه الخاص على العالم، يسلمنا إلى هيمنة إسرائيلية على المشرق العربي، ونجاة نظام استبدادي ولغ في دماء مواطنيه (المقابر الجماعية التي كشفت بعد انهياره تكشف مدى وحشيته) وابتلع حقوقهم إلى درجة جعل حياتهم مأساة مستمرة، يسلمنا إلى تبرير القهر والاستبداد والقتل الجماعي، فارتبك واضطرب ودار حول نفسه مكررا إجابات تقليدية تارة ومتعارضة مع المنطق تارة أخرى.. لقد عجز عن مغادرة تصوراته الساذجة، الإطلاقية والأحادية، وتحليلاته المجردة، أعاد إنتاج خطابه الساكن، حول الوطنية والاستعمار والخصوصية، الذي لا يتسق مع المتغيرات الجذرية والصاعقة والمتسارعة في العالم... لقد تجلى بؤسه في تفسيره لهزيمة النظام العراقي حيث أبرز مقولة (الخيانة)، وكأنه كان يتوقع انتصار نظام فيه كل نقائص بني الإنسان.
كل هذا جعل أول وأهم أسئلة الزلزال العراقي العربي، هو جدوى استمرار نمط التفكير السائد (النظرة الخطية التبسيطية، والتحليل التآمري، والنزعة السكونية، والدوران حول الذات وعشقها) وضرورة إعادة النظر في بنية الخطاب الفكري والسياسي في أدواته ومفاهيمه وتطوير مناهجه وتغيير تحليلاته ورؤاه وتصوراته حول ذاته والعالم والمستقبل على هدي نزعة نقدية وعقلانية، وتبني خيارات تتسم بالعقلانية والعملياتية، والقطع مع النسق الأبوي التسلطي وإفرازاته، وهذا يعني أننا بحاجة إلى فكر جديد ومنهجية تفكير جديدة تقيم تصوراتها على النسبية والدينامية، على خطاب تعددي، وتضع خططا قادرة على التعاطي مع المتغيرات الصاعقة والحاسمة التي تشهدها الأوضاع الدولية، خططا تستند إلى مبادئ عامة تصلح للتأسيس لمجتمع حر وكريم مجتمع هو سيد نفسه، بعد تحريره من الاستبداد والعجز والشعور بالدونية، والتفاهة والتخلص من قوالب الوطنية (القومية) الثورية المصاغة لتكون غطاء للاستبداد والقهر ومذلة المواطنين، مجتمع المواطنة الحرة، في ظل دولة الحق والقانون.
تأرجح المثقف العربي بين منطلقاته الفكرية والسياسية وحياته الخاصة، وهذا وضعه بين طرفي تعارض، وقد قاده الوضع الذاتي وضغط السلطات إلى الانحياز- إلا من رحم ربي - إلى الأمير وابتداع أطروحة (تجسير الفجوة) بين المثقف والأمير لكنه وهو يقوم بعملية (التجسير) انتقل إلى الضفة الأخرى، حيث وجد نفسه أمام باب الأمير.
عبّر أحد الظرفاء عن هذه العملية بقوله: قال الأمير للمثقف: كن معي.
أجاب المثقف: بشروط. قال الأمير: ما هي هذه الشروط؟ قال المثقف: راتب أمريكي (أعلى راتب في العالم) ومنزل بريطاني (المنزل البريطاني التقليدي مكوّن من ثلاثة طوابق: أول للجلوس، وثان للنوم، وثالث مكتب لرب الأسرة) ومطبخ صيني (غني بأصنافه) وزوجة يابانية (زوجة تقدّس زوجها).
أجاب الأمير بعد أن شعر بأنه كسب الجولة، موافق مع بعض التعديل: راتب صيني (أقل راتب في العالم) ومنزل ياباني (أقل من 60 مترا مربعا) ومطبخ بريطاني (أسوأ مطبخ في العالم) وزوجة أمريكية (أسوأ زوجة في العالم).
لقد وضع المثقف العربي نفسه في موقف يتناقض مع دوره ووظيفته الاجتماعية، لقد اقتدى بسلفه عقيل بن أبي طالب الذي قال: (الطعام على مائدة (معاوية) أطيب، والصلاة خلف علي أبرك).
لذا فإن مسؤوليته فيما حصل كبيرة، لأنه بسلوكه هذا قد وضع نفسه ضد وطنه ومواطنيه، وضد دوره في الحياة العامة، ولعب دور المبرر للسياسات والمزور للحقائق (قال اللواء طلعت مسلّم من مصر، في مقالة له في صحيفة الحياة عام 1991: إن إيران هي التي قصفت قرية حلبجة الكردية بالغازات الكيماوية).. والمصفق لسياسات السلطة، حضر مهرجان المربد، الجنادرية، جرش، معرض الكتاب العربي في القاهرة، ودورات مناقشة (الكتاب الأخضر)، ومؤتمرات مؤسسة الفكر العربي، وقبل هدايا الأمير وجوائزه.
لقد خان المثقف العربي قضيته وقضية وطنه، وخذل مواطنيه، ولهذا فإن الزلزال العراقي العربي، يطالبه بإعادة نظر جادة وحاسمة في سلوكه ومواقفه، ويعدل تصوراته وخياراته بدلالة مصالح وطنه وكرامة مواطنيه، بالخروج على سلوك طلب (الحسنيين) المكانة والرفاه، وتبني سلوك يتسق مع الوظيفة الاجتماعية للمثقف وتكريس انسجام بين الفكر والسلوك، كي يستطيع التأثير في الحياة العامة وتقديم فكرة حافزة لعموم المواطنين تساعدهم على تحديد خياراتهم وضبط استجاباتهم وردود أفعالهم، حيث يكونون محصنين ضد الحلول السهلة والخادعة التي تقوم بها السلطات.


* كاتب سوري

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved