الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 23rd January,2006 العدد : 137

الأثنين 23 ,ذو الحجة 1426

فراغات فوزية
*عبدالحليم البراك
باتت فوزية كل يوم تزرع بروحها الطيبة أربع دجاجات، وترقبها بعينيها العسليتين، كما يزرع أحدنا حبة قمح صفراء في حقل صغير، ترعاها بلطف، في صباح كل يوم ملوّن تجلس القرفصاء بجوارهن، وربما جلست مستندة على جدار صغير بجوار حظيرتهن، تنثر حبات الأرز البيضاء المطبوخة، أو حبات شعير سمراء مكتنزة بفروسية بروتين معتّق!، تجلس كل يوم مرتين لدجاجاتها، تحكي لهن في الصباح ما حدث في الأمس من صويحباتها، وفي المساء تعيد عليهن ما سمعت من أخبار في الراديو، أو أنها تحكي لهن قصة المسلسل الذي يعرضه التلفزيون العتيق في منزلها، كانت لا تفوّت اللقاءين مع دجاجاتها مهما حدث، حتى ولو جاء أخواها من المدينة، ولو كانت نساء المدينة اجتمعن عن بكرة أبيها في بيت.
الدجاجات الأربع - وبشهادة الجميع - كن ينصتن لفوزية وهي تهذي عليهن، فما بين نقراتهن بحثاً عن حبة أرز بين ركام ذرات الغبار، وبين صياحهن، فإن عيون الدجاج الصغيرة والمدببة، لا تفتر وهي تنظر عن قرب لفوزية، تفعل ذلك بإنصات آدمي، لقد كانت صداقتها معهن لا حدود لها، باعتراف من حضر هذا، سحابة النجوم التي صنعتها فوزية، كانت تسبل عليهن أسماء في الصباح، وأسماء أخرى مختلفة في المساء، أما أسماؤهن في الصباح؛ فهي أسماء رؤساء دول عربية وربما مشاهير العالم، بينما إذا جن الليل وجلست إليهن، فإنها تسربلهن بأسماء صويحباتها اللاتي غادرن الدنيا، لم تفارق شفتاها البسمة؛ مغرمة بحب تلك الدجاجات، كل دجاجة من دجاجاتها الأربع، تعرف اسمها الصباحي واسمها المسائي، وتكاد تلتفت إحداهن إذا ما نادت باسمها.
لم تكن تلك الدجاجات الأربع تبخل على فوزية بثلاث بيضات يومياً، تتوقف واحدة منهن بالترتيب عن وضع بيضها كل أربعة أيام، فتدخر فوزية البيض لأخويها حمد ومحمد، لأن البيض بلدي - كما تقول دوماً - يقوي الظهر ويحمي من البرد، هذا عدا أن كل بيضة من تلك البيض تعرف - تحديداً - من وضعتها منهن، فتخص أحد أخويها - الذي تحبه - ببيض خاص من إحدى الدجاجات القويات!
لا يقطع قلق سكونها المنبت إلى دجاجاتها إلا أخوها حمد، عندما يعود من المدينة، ليطمئن على حالها، يلومها - في كل مرة يأتي إليها - على جلوسها إلى دجاجاتها، فكأنما مجنونة تهذي عليهن بقصص بالية، أو بأساطير رغوة تخطو بتأنٍ من بين شفتيها اليابستين، كانت تلقي باللائمة على سفره وتعليمه في أمريكا؛ بل وشهاداته التي حازها من هناك، بأنها أفسدته،
كان يلومها كثيراً على سلوكها هذا، لكن لا يوقف نزيف لسانه الجارح إلا أخوها - وقرة عينيها - محمد، الذي دائماً يشجعها على الجلوس إلى دجاجاتها والحديث معهن، محمد؛ رغم أنه درس بفرنسا؛ إلا أنه ليس كحمد، كان يغدق عليها بكلمات التشجيع، ويقول لها إن هذا فن تمارسه بتلقائية فريدة، بل رسمها ذات مساء، وهي منكفئة على دجاجاتها، تحت إضاءة مصباح صغير أصفر، التمت على حوافه غبرة أعوام مضت، وهي تجلس إلى طوبة صغيرة وحولها دجاجاتها تلقمها حبات الأرز؛ رسمها بقلم رصاص على لوح خشبي من شجر الأرز، يقول إنه أحضره من لبنان، محمد الذي لم يكمل تعليمه في فرنسا، ذهب ليدرس أحد العلوم فيها (هكذا كانت تروي فوزية دوماً لدجاجاتها عن أخيها)، لكنه عاد خائباً، يقول إنه درس الرسم، والناس يقولون إنه درس الموسيقى وأحب فتاة فرنسية، عاد بحالة نفسية ما زال يتعافى منها في أحد المستشفيات، لكنه طيب جداً، ويخصها ببعض المال، كان يقول لحمد، إن له أصدقاء في فرنسا لو شاهدوها في هذا المنظر لجعلوا منها أسطورة فرنسية، مرة أحضر مصوراً محترفاً ليصورها هي ودجاجاتها؛ قبيل الغروب بقليل، وقد أعطت ظهرها للمصور، لكن الصورة لم تعجب فوزية، لأنها كانت بالأسود والأبيض، وكانت تظهر قدميها ويديها مكشوفتين، قد بانت عروقها على جسدها النحيل، كانت تلك الصورة وهي تطعم الدجاج.
لما توقفت الدجاجات عن البيض حزنت فوزية، وعندما هرمت الدجاجات مرضت، وتساقطت حبات عمرها الندي، وتدفق نهر من شياطين الحزن على روحها، بل عندما احتضرن دجاجاتها شعرت بأنها تهرم سريعاً، وأصيبت بأربعة أمراض، سمّت كل مرض من أمراضها بأسماء دجاجاتها الأربع، فأحبت فوزية مرضها وعاشت معه بضع سنين، وهي تلوك فراغات غيابهن عن قلبها الصدئ، فباتت كطفل خديج بلا دجاجاتها الأربع!
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved