الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 23rd January,2006 العدد : 137

الأثنين 23 ,ذو الحجة 1426

المبشع
*سليمان الأفنس الشراري
اشتد احمرار الحديدة.. الصغيرة.. التي قد لا يتجاوز قطرها كاملاً نصف راحة اليد.. ابتلع راشد ريقه ثم حاول استدرار كمية جديدة تحاول أن تقاوم ما سيحصل بعد قليل.
فقد ينتظر بعد قليل حداً فاصلاً بين الحقيقة والباطل.. كان انتظار هذه اللحظة منذ ما يزيد على خمسة عشر يوماً عاشها (راشد) أكثر قلقاً وخوفاً أن ينسب إليه بما هو ليس فيه من تهمة استطاع أحد الرجال أن ينسبها له بسرقة قطيع من الإبل وبيعها في سوق المدينة الكبيرة.. ومع أنه لم يستطع أن يثبت صحة أقواله في سفر الذين لم يستطع أن يجد فيه شخصاً قابله أثناء ذلك السفر لكي يشهد أنه لم يكن لديه سوى (ناقته) الوحيدة التي سافر عليها إلى المدينة الكبيرة.. ولم يكن لديه سوى أن يقبل حكم الفصل في قبول (لحس البشعة) لدى المبشع الذي يحتكم لديه في كل مرة نفر من جماعته البدو، ومع أنه لا يزال في قرارة نفسه لا يؤمن بتلك الخرافة.. فالنار ستحرق الجسد لا محالة أياً كانت.. وهذه الطرقة ربما ستثبت مدى خوف أو شجاعة المتهم ومدى ما لديه من أخبار وحقائق لم يستطيع متهموه أن يدينوه بها سواء الظنون والشكوك الذي عادت تنتهي (بلحسة نار البشعة) حيث توضع حديدة صغيرة مدورة في النار حتى تحمر ويرى الجميع احمرارها ثم يفتح المتهم فمه ويمد لسانه ثم توضع تلك الحديدة على لسانه.. فإن أحرقته فإنها تثبت إدانته إضافة إلى ما واجهه من الحرارة التي لا تطاق.. وإن لم تحرقه فإنه برىء وله الحق بأن يأخذ مقابل ذلك.
(راشد) لم يستطع مقاومة الظنون التي أخذت تتصارع في داخله بمدى مقاومة لسانه الطري تلك النار.. ومع أنه برىء.. فهو لا يزال إلى هذه اللحظة التي أصبح فيها بمواجهة (المبشع) البشع الوجه الذي يكثر الالتفات في وجوه المتخاصمين.. ومع تلك النظرات لن تغني مهما أصدر من حكم عن (لحس البشعة) إلا أن تلك النظرات مصدر رعب لذلك المسكين الجاثي أمامه ينتظر قدوم المعجزة لبراءته مما نسب إليه من ظلم. وهذه العادة ليست الوحيدة من السلبيات التي يعيشها (راشد) حتى النساء أخذن دورهن في ذلك.. حينما يؤتي بفرس ولدت حديثاً ولم تقبل وليدتها بأن ترضعها من لبنها حيث يتم جر تلك الفرس وخلفها وليدتها للبحث عن تلك المرأة العفيفة الطاهرة التي لم ترتكب أي جريمة شريفة سراً ولا علناً.. لتقف أمام الفرق وتناجيها قائلة (أيتها الفرس.. أنا فلانة العفيفة الطاهرة).. (..) (..) أقسم بالله العظيم أن تلك المهرة الصغيرة قد خرجت من بطنك) وهكذا وحسب ما يذكرونه في مجالسهم بأن الفرس تسمح لتلك المهرة بأن ترضع من لبنها.. ومع كثرة أحاديثهن عن هذا إلا أن (راشد) لا يؤمن أيضاً بهذه الخرافة لكن عادات وتقاليد القبيلة جعلته يقف مكرهاً في هذا الموقف.
لايزال الجميع ينتظرون أن يدفع ( المبشع ) يده ليلقي تلك الحديدة ..
(راشد) يفتح فمه وهو يتمتم ببضع كلمات غير مسموعة يناجي بها ربه: (اللهم إنك تعلم أني بريء.. فاسترني في دنياي.. واجعل كيدهم في نحورهم) تصرخ امرأة تسترق النظر وراء ساتر من الصوف الذي صنعته بعض النساء كسجاد ذي رسوم رائعة.
عدد كبير من الحاضرين يقف يستبق النتيجة.. ولكنه يسابق عجلات الزمن الذي يمر هذه اللحظات ببطء شديد.
يدفع (المبشع) يده تلك الحديدة اللعينة.. فكم من أفواه المظلومين والمجرمين مرت في أفواههم.. بنتائج غير مضمونة لا يعلمها سوى الله سبحانه الذي يعرف خفايا الأمور وما تحويه الصدور.
مأساة تتكرر في كل قضية مشبوهة الفاعل.
راشد يقف.. يحاول الكلام.. الأفواه من حوله تحاول أن تنطق بدلاً منه وهي تكرر كل ما يقوم به فمه من تعبيرات تحاول أن تخرج شيئاً يقوله.
سقط الستار الذي يقسم البيت المصنوع من شعر وصوف الأغنام ووبر الإبل نتيجة قوة الضغط عليه من النسوة اللاتي رغبن أيضاً في استباق النتيجة.. لم ينتبه الحاضرون لسقوط الستار.. فالنساء أصبحن بمواجهة أمام الكم الكبير من الرجال المحتشدين لرؤية هذا الحدث.
راشد يحاول الكلام.. وهول الحديث يمنعه.. ويجعل الكلمات تتزاحم للخروج من فمه.
وفجأة ينطق راشد: إنني والله العظيم.. مظلوم..
الانتصار..
فلسانه قد سلم ولم تؤثر فيه النار.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved