الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 23rd January,2006 العدد : 137

الأثنين 23 ,ذو الحجة 1426

الوهم المرعب

*إبراهيم الناصر الحميدان
يجتاحه لهاث العصافير عندما يحلق في الجو، يلتفت حتى يشم رائحة العبير توشيه هيبة الكون والجلالة. باحثاً عن نجماته في الأفق بنات نعش!
اعتاد منذ عدة سنوات امتطاء متن الأثير.. على ظهر المركبة العملاقة.. تمخر العباب هادرة مزمجرة.. فدفع بقدميه حتى مداها من تحت الكراسي لترتاحا من جفوة الامتصاص. القابع بجانبه شارد الذهن.. يلوذ بصمته متكتماً على هواجسه.. والتوتر يحيط به. قد يفكر بمن سيلقاهم عند الوصول.. يتشوقون إلى ما تمتلئ به حقيبته. فالاغتراب ضريبته الهدايا.. وليست تلك الابتسامات، تنفرج عنها الأفواه سوى رشوة الانتظار.
حاول مد جسور الحوار لابتلاع ملل المسافات. فأخفق في إيجاد الوسيلة.. تشاغل بتحريك أزارير الشاشة التي تقبع خلف الكرسي المواجه.. تتالت المشاهد بألوان الطيف. احتباس الكلام في صدره مازال يضايقه. لم تشده الرؤى الباهتة والآخر تحامى بصمته. جاءت المضيفة الجميلة..
ذات الوجه الصقيل لتوزع بطاقات صغيرة فكر بمحاورتها.. لولا أنها مرقت على عجل لانشغالها.
فاكتفى بمنحها بسمة عابرة.. تحمس لتعبئة البطاقة. شد حقيبته الصغيرة.. واستل منها ذلك الدفتر الملون يحمل هويته وقلماً صغيراً. أثبت عليها المعلومات المدونة التي تخصه منها.. الآخر تجاهل حركته حتى بعد أن أغمد القلم والدفتر في جوف الحقيبة! تقافرت المشاهد على الشاشة.. عالج الصوت قليلاً.. اللغات معبئة مع نزف الموسيقى الناعمة. داهمه شعور الوحدة.
والآخر يحتمي بصمته المريب متكوراً على أسراره. صدره يمتلئ بالأجوبة للمستقبلين. والحقيبة الكبيرة تشكو الخواء لا نبضاً يطري جوانبها، تلقفتها أيد كثيرة حتى ذهبت برونقها. شهدت عواصف الأسئلة ثم زمجرة الأقدام وهي تركل المؤخرات. المشرد لا يعثر على من يعطف عليه إلا نادراً. والصعاليك التجأوا إلى الكهوف وأعالي الجبال منذ الجاهلية. يتخطى الحدود بلا خوف..
لن يخسر شيئاً.. والأفواة التي تصرخ في وجهه تمنحه الشجاعة والإقدام. جعبة ذكرياته تمتلئ بالأشجان والقهر. تشفق عليه من ملازمة احتكار الصمت له. ملابسه رثة.. لا توحي بالهطول المالي.. بل بالجفاف والجدب.. أحضرت الفتاة صقيلة الوجه بعض أقداح المشروبات الملونة.. تناول إحداها دون تمييز دلقه في جوفه فاستدعى التجشؤ. انتشى لبرودة القدح أو لمذاقه.
فومضت عيناه بيقظة مفاجئة.. هرب النعاس والتفكير الضني. صار أكثر شجاعة لمواجهة الموقف القادم. اعتاد أن يخضع للاستجواب والركل الخفي. لم تعد تخيفه أعقاب البنادق تتجول على جسده. الجوع يعذبه فقط.. يغري أمعائه.. ويثير سخطه.. يتبادل الشكوى مع رفاقه المحاصرين بين أربعة جدران فيكتفون بإطلاق الشتائم. لا ينقذهم سوى احتدام النعاس يصرعهم الواحد تلو الآخر.. أحلامهم عابسة تتطاير مثل الشظايا.. لا تهدأ من التغلغل اقتحمه هذه المرة بعزيمة قوية.. استفزه بإخراج علبة السجائر. طلب منه (ولاعة) نظر إليه الآخر باستغراب.. التدخين ممنوع على الركاب بتعليمات غلاة الصحة في حربهم ضد الشركات المنتجة. تحمس الصامت فسأله بصوت خشن: ألا تخشى اختراق القانون؟ استغرب منه هذا التحذير. ابتسم في وجهه مؤيداً وقد فرح لنجاحه في اقتحام صمته. سأله بعفوية.. كم أمضيت في الغربة؟ رد الآخر بحزن.. تسعة أشهر.. منها ستة أشهر في التوقيف؟ فسأله باستغراب: ماذا فعلت؟ أجاب: كنت مخالفاً ولم أحصل على إقامة نظامية فواصل.. أهدرنا الكثير من أموالهم في الاحتجاز لإطعامنا. فقرروا إبعادنا.. ثم أضاف وهو يشير بيده معظم ركاب هذه الطائرة من المبعدين!! أدرك لتوه سبب اعتصامه بالصمت.. فشعر بقشعريرة تسري في أوصاله.. فأخذ يلتفت متفحصاً وجوه الركاب بريبة. من هم العائدون إلى أوطانهم فارغي الجيوب؟ ألا يحمل بعضهم سكاكين مدببة تكفي لترويع قائد الطائرة؟
إنتابه رعب مفاجئ فنهض من مكانه حتى يبتعد عن هذه القنبلة التي تنكمش بقربه.. بحث عن الجميلة ذات الوجه الصقيل حتى تنقذه ولو بابتسامة مشرقة تتخلل محياها الفاتن. لم يجدها.. ذابت في الأجساد المتكدسة. ثم تذكر بأنهم كانوا في حوزة رجال الأمن فلا سبيل إلى احتراز أي سلاح صغير بما في ذلك موسي الحلاقة. ارتاح لهذا التأويل.. والجوع يجعل الناس مسالمين حتى وإن امتلأت قلوبهم بالحقد والغضب. استغرقته دوامة التفكير وتمنى لو اكتشف العلماء محطات جوية في الأفق تسمح بمغادرة الطائرات واستبدالها تخففاً من القرصنة. ولم ينقذه من حومة الرعب سوى صوت قائد الطائرة الذي أعلن أنهم على مقربة من محطة الوصول.. وعلى الجميع ربط أحزمة المقاعد. فجلس متنفساً الصعداء. واعتزم أن لا يركب الطائرة حتى يتحقق من هوية الركاب ومعرفة هويتهم.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved