الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 23rd February,2004 العدد : 47

الأثنين 3 ,محرم 1425

هرة العم حسن
نايف فلاح
الكلام في أو عن (العم حسن) لا بد له أن يكون كلاماً غير مغمور بالخاطر الشائع، ذلك الخاطر الذي يصدر عن القول المعتاد في مثل هذه الشعبة من ميادين الكتابة.. حتى يبدو ولا شيء أكثر منه مبالغة وأشطح منه خيالاً، أو ربما وكأنه (إظهار من ليس).. فتخرج أنت، بوصفك راوياً، مخروماً بالكذب المروق، من قناة عين الرضا.. لترتد سيرة (العم حسن) هيولى وهمية تحمل عليها صفات الرفعة والرقي، فيلزم ما تحكيه عنها أن يُلقى في وارد الامتناع.
أما الحديث إليه، بل قل عن اللقاء الأول أو لعله العاشر معه، من شأنه أن يصور لك لقاء بين المثل العليا، بما هي هلام في أغوار النفس أو تخييل من تجاديف الفكر، وبين شخصية (العم حسن) التي هبطت عليها هذه المثل ففسرتها ورسمت ملامحها، كي تتنبه، بغتة، أنك غارق في لحظة ثقافية إنسانية، وثبت , عبرها، أغلب مكوناتك المعرفية والبشرية نحو التطوير والتبديل.. شخصية (العم حسن) بلا تخوم ولا حدود.. آه من هكذا شخصية، تجدك فيها مستلقياً في حضن, شمله, تمام الوحشة مع تمام الأنس.
عمره اليوم، حول التسعين.. يسبقها بعام، أو يلابسها، أو يتلوها بعام.. هذه مواطن اجتهاد وتخمين لا مقطع فيها ولا اجتماع عليها ما بين خلصانه وكذلك بين مريديه.. ويا ليت شعري كم هم؟! وكان صباح من صباحات أيامه، والصباح في حياته، أي منذ ما ينيف على عقدين من مزايلته للوظيفة، هو هو ذات الصباح.. إذ نلقاه وقد واقت الشمس في الطلوع، مفتعداً كرسب على غير اتكاء، وعلى مقدار تكأة عن يمينه أو تكأة عن شماله ثم من يحسن أو يتعتع في كتاب كان قد اختير في ذلك اليوم! وحوله، ولا يشك عمن حوله، لفٌّ، لك أن تتوقع، كيفما وهمت، هوياتهم أو ماهياتهم، ولسوف تصادف لكهانتك، أياً كانت، مصاديق لما تقول..؟!
لكنك لن تتصور قط أن هناك هرة ما ستكون جليساً يأنس بها ولها هذا العجوز؟!
هذا العجوز الذي ربما بل أزعم أنه لا يشعر بتماديه الأربعين من سني حياته.. وهو رأي ليس لي فيه إلا حظ الرواية عنه.. فهو ينشره في بعض أبنائه.. وإذا ما قلت أبناءه فإنما أحيل إلى شرط اصطلاحي خاص بسيرة هذا الرجل وحياته، لا إلى البنوة السائدة في لياقات الناس، بمعنى أن له نسلاً يدين جميعهم له بالأبوة، على أنهم ليسوا من صلبه؟
وتلك الهرة بما أنها جليسة لا تنفك عن مداعبته إلى حال يمل فيها الحاضرون.. وهو لا يفتر من معاينتها ودفعها بقدمه، ومن تدليله (اللي) أو خرطوم الشيشة لها، إذ يباشر استدناءها عندما تتباعد عنه دلالاً أو ملالاً..
وفي أثناء المشاغلة فيما بين الهرة وبينه، تلفيه يقوم تلاوة قارئه، ويسير في اللحظة ذاتها إلى آخر بيديه على نحو قول (لا) الرافضة لذلك الذي يرغب في (دوزنة) العود، أي أوتاره.. ليخرج بعد ذلك، وباستتار.. (ربطة ريالات) من فئة (الخمسة) مجيباً بإحدى الخمسات سائلاً بصيغة الاستعلاء.. عم حسن .. خمسة الصباح!!
ونحن إن اطمأننا إلى طبيعة السؤال، واقتنعنا بالوضع الكتابي أو بالشكل الحرفي، فلن يأتينا المعنى، كما ينبغي، إلا ضمن الوضع الحركي أو السلوكي أو الصوتي الذي قيلت فيه، كيما نعلم ضرورة أن (خمسة الصباح) واقعة في منزل المفعول، لفعل أمر محذوف تقديره (أعطني) أو لعله مسبوق بالحث والتنبيه ليعبر (هيا أعطني)... بخ بخ.. يا لهذه اللغة!!
وبصمت يشبه الجبلة أو كأنه البديهة يتناول السائل (الأمر) (خمسة الصباح)... ولا بد لنا أن نلوي على (خمسة الصباح) في آتي الأيام إن شاء الله تعالى.
ومن فوره.. يعود المشهد إلى عهد ذي قبل..
جمهرة غير مستقرة.. قارئ.. سائل متعالٍ.. عازف عود مبتدئ.. قط.. بات يستروحها العجوز.. وتظل هي على بعدة منه.. يلوح لها ب(اللي) باعتباره عامل إغراء، إلا أنها لم تغادر إباءها، حيث لا تقدم يمناها إلا لتسترجعها.. وهكذا، دواليك، تقدم لتسترجع، وتسترجع لتقدم بتوافق بدا وكأنه ضبط لزمن موسيقى..
فيتكسر الجو بسذاجة رقيع..
حتى (القطط) لا تبالي بك يا عم حسن!!
ويبادهه العجوز.. وقد انزلق (اللي)، ذهولاً، من كفه، وانحلت الركبة عن أختها، واعتمد على يديه كالمتوثب...
ليش (حتى) هذي؟!
ما أفهمك يا عم حسن!!
يعني ليش جاءت (حتى) في مكان زي هذا؟!
ما أدري! لأني ما أزال لا أفهمك!!
يا سيدي.. (حتى) هنا لها طوية تندرج تحت معنى العطف.. والعطف على ماذا؟! على حزمة من النقائض والسوءات، وحاشا هرتي أن تكون كذلك.. (لله هذا العجوز)؟!
يا أفندينا (والكلام للعم حسن) أعجب ما يأخذني إلى هذه الهرة بل وكل هر وهرة، هو أنهم لا يقامون أمراض الكلاب.. تيك الكلاب التي ما فتئت تلبس على بني البشر بالازدلاف والتمعش والافادة منهم بدعوى الوفاء؟!
ويا للفكاهة أمسى الكلب عنواناً للوفاء، وصار الوفاء نتاجاً للكلاب!!
الهرة، يا صاحبي، وطنية بالطبع، ولست أحسب مخلوقاً ما أحرز من حب الوطن كما أحرزته هذه الهرة.. هلا قاربت رجلاً يشاكل الهرة في هذه الخصلة، خصلة الصحور في الدار والانتماء لها والولاء لأهلها مهما تبدلوها غناء، أو هجروها عوزاً وفاقة.. برجل يواطئ الكلب تمصلحاً بعد تملق، وتهافتاً على الموائد حيثما خلت!
بالله عليك أيهما إلى المروءة أقرب؟ وب( حتى) أولى؟.. يلتفت للهرة.. والقارئ يكمل؟!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved