الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 23rd February,2004 العدد : 47

الأثنين 3 ,محرم 1425

قصة قصيرة
بائعة.. النعناع
محمد عطا الله العنزي

بدأ قطار العمر يمضي وخيوط الكبر تنسج ملامحها على وجه رقية بائعة النعناع بدأ الشيب يغزو ساحات واسعة من رأسها.. وكأنه ثلج تساقط على قماش أسود.. خطاها مثقلة بهموم الكد مازالت تمارس الركض وطرق الابواب من اجل توفير الطعام للصبية العاطلين عن العمل.. جسدها النحيل تلتف من حوله عباءة سوداء مليئة بأحزان وهموم.. وفي يدها.. كيس تفوح من وسطه رائحة النعناع الحائلي بنكهة رقية كما تسميه عادة.. كانت تأتي من آخر الحارة ويستقبلها الاطفال بكل حب وهم يرددون «رقية.. نور الحارة» وهي تستقبلهم بابتسامة ملؤها الحنان والعطف بالرغم من تلك الاوجاع التي تعتصر قلبها والاحزان التي تملأ صفحة وجهها الرقيق.. تحمل الكيس وتجلس خلف احد البيوت تنتظر نساء الحارة لكي تعرض ما معها من «نعناع» قامت هي بتجفيفه بنكهة «رقية المعهودة» تجتمع عليها نساء الحارة وتبدأ سلسلة الاحاديث التي لاتنتهي بين شراء.. وضحك بنكهة نعناع رقية وفي آخر النهار تعود.. الى بيتها البعيد خطواتها مليئة بالتعب والارهاق.. بعد ان نالت نصيباً من حرارة الشمس.. لتصل الى بيتها.. في آخر الحارة بجانب مدرسة الحي.. لتدخله بكل اسى وتعب وتستقبل ابناءها بصدر حنون وعاطفة جياشة تسلم على الكبير.. وتقبل الصغير.. تدلف الى الحمام وتتوضأ لتصلي.. ومن ثم تنظر ماذا يريدون من عشاء تبدأ.. بكلماتها المعهودة التي تنادي بها ابناءها «ياثمرة.. حياتي العشاء جاهز».
تنزعج من تأخرهم.. تنتظر. وحيدة امام العشاء وتكرر عبارتها المعهودة..
يأتون.. بخطى ثقيلة.. تبتسم رغم الغضب بابتسامة تغطي الكدر.. وتقول.. لابنها الصغير ترى لعيونك بس عشانا اليوم مافيه مثله بالحارة.. عشانا اليوم «كوسة.. محشي» لاتكسر بخاطري.. قال ابنها الصغير لعيونك اكل الصحن كله.. ضحكت امه.. مبسوطة من كلامه.. وتقول في نفسها المهم «تعشى الجميع» تعود الى غرفتها.. بعد يوم متعب.. وتستلقي على فراشها.. تنظر الى اكياس النعناع نظرة الم وحرقة وهي تتذكر شريط الذكريات.. كيف مرت ايام الصبا والمراهقة عبثا وتعبا.. تنظر الى يديها وكيف أصبحت «خشنة» يابسة من كثرة طرق الابواب، لم يفارق مخيلتها اصوات خطواتها المثقلة بالهم والتعب وهي تلف الحارة، مازالت رقية تتصفح كل ليلة ذاكرتها لكي تنسى بعض مآسيها.
ومع فجر جديد.. تبدأ رقية الاستعداد لكي تنشر رائحة النعناع وسط الحي القديم.
خرجت رقية من بيتها واضعة كيساً كبيراً فوق رأسها مليئاً بأحزان وهموم خائفة من حافة المجهول تلف بجسدها النحيل شوارع الحارة وتنادي بعبارتها المشهورة التي تخترق صمت الحارة «نعناع رقية مع الشاهي غير» استقبال جماعي لأطفال الحي طابور ينتظر رقية على احر من الجمر.. هتافات غير متوقعة.. انهمرت دموع رقية بسبب هذا الحب الجارف من صبية صغار وبدأت تردد «هلا.. هلا بعيالي ابشروا» اخرجت من جيبها بعض الريالات وهي تقول: تقاسموا الريالات كل واحد له نصف ريال.. زين عيالي.
وفجأة.. بدأت السماء تتلبد بالغيوم والرياح تهز ابواب الحارة ومع كل اهتزازة تهتز دقات قلب رقية الموهن وتبدأ تجمع اكياس النعناع وتلملم اشياءها مسرعة الى بيتها التي تكاد خطواتها تسعفها بالمشي اليه عبر شارع ضيق لم يكتمل رصفه بعد.. لتصل الى بيتها وتدخله بهدوء كما خرجت منه تدلف الى المطبخ لكي تعد طعام الغداء لابنائها العاطلين عن العمل.. رائحة الطعام بدأت تنبعث من المطبخ معلنة انتهاء «الكبسة» التي اصبحت جاهزة، تنطلق كلماتها المعهودة وهي تنادي ابناءها «ياثمرة.. حياتي الغداء جاهز».
يبدأ الابناء بالجلوس حول الصحن.. ورقية ترقبهم وهي تقول عافية ان شاء الله وتتبع هذه العبارة بكلمات لا تخرجوا خارج البيت اليوم مطر وغبار فهمتوا ما اقول؟
تعود الى حجرتها كي تستريح فيها.. ترمي بجسدها النحيل على ذلك الفراش البالي وتلك الوسادة المكتوب عليها «صباح الخير» تحتضن رأسها المليء «بالشيب وبالافكار المزحومة بهموم التربية ومسؤولية العيش بدأت الدموع تملأ صفحة وجهها وهي تفكر في المستقبل المظلم لأولادها العاطلين عن العمل.. لم تستطع ان تنتزع ذلك الانكسار وتقذف به الى حافة المجهول بل كان ملازماً لها «كالظل».
بدأت تسأل نفسها من يتحمل هؤلاء الصبية بعد موتي؟ من سينفق عليهم؟؟
بدأت رقية صراعاً مع الذات تقف امام الايام بكل وجل؟ تسأل هل بقي متسع من العمر ام تلك خيوط الكبر بدأت ترسم ملامحها على خدي؟؟ ثمة اشياء اخرى جاثمة على صدرها.. تجعلها سراباً يلوح بعيداً بدون اي اهتمام يذهب مع أحلام الماضي وذكريات الصبا!! تمتمت كل هذه الآهات «بصمت مفزع» خرجت من حجرتها لتلقي نظرة وداع.. الى نهار مليء.. تعب وكدر.. وتستقبل نهاراً جديداًَ.. سينسيها نهار تذمرها من اولادها.. ونهار ذكرياتها البائسة.. برائحة النعناع..!!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved