الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 23rd February,2004 العدد : 47

الأثنين 3 ,محرم 1425

واقع الفن التشكيلي المحلي (16)
الاتجاهات الحديثة أدخلت الفنون التشكيلية في نفق مظلم
هناك فرق بين تطوير الفن وبين طمس جمالياته
محمد المنيف

تطرقنا بتلميح موجز عن بعض الاتجاهات الفنية في الساحة التشكيلية المحلية أو ما يمكن وصفه بالفيروسات الفكرية والتقنية شأنها شأن ما يحدث للعقول الإلكترونية عبر ما يبعث به المخرّبون في رسائل الإنترنت فقد بدأت آثار تلك الفيروسات تظهر نتيجة لكثافة غزو التشكيل الغربي خصوصا الحديث ذا النهج المتحرر من أي قيود أو مرجعية ذات صلة بموروث بصري أو فكري خلفته حضاراته الأصيلة بقدر ما يأتي وليد لحظة معينة يستشعر فيه الممارس للعمل دوافع نفسية استجابة لمحرض ارتجالي لا صلة له بالواقع أو بالمحيط سوى انه ينقل ردود فعل لشيء ما لا يمكن تفسيره أو معرفة دوافعه فيقدم لنا أعمالاً منسلخة من أبعاد وقوانين المفهوم العام للإبداع لعدم قدرة أولئك الممارسين لهذا النهج على التعامل مع ما ينقل رسالة الفن الرفيعة السامية تجاه مجتمعهم محطمين بذلك أصول وقواعد العمل الفني الحقيقي المتجذر بكل العناصر والرؤى مؤكدين بهذا الفعل فشل محأولة سيطرتهم على تلك القدرات.
وعودتنا هنا حرصا من أن يكون مثل هذا الاندفاع العاجل من بعض فنانينا ممن يسعون لتقديم مضامين وأنماط غريبة على جسد إبداعنا المحلي رغم قلة عددهم وعتادهم الإبداعي الجديد مع تلك التيارات من يسيئون به لحركتنا التشكيلية التي يشترك الجميع من أجلها في هاجس واحد يمثله البحث عن هوية حقيقية تحمل مواصفات عربية الانتماء إسلامية المبادئ سعودية الملامح والولادة والمنشأ مما يجعلنا أكثر حذراً في عدم كشف بعض التبدلات والتغيرات وحرصنا على ألا نكون كما لا يريد أولئك المندفعون أن نشهر بهم أو أن نصفهم بأي شكل من أشكال النقد للتعريف وتحليل أبعاد ما يقدمون من خزعبلات وتفاهات تشعرنا بتمردهم على السائد في مجتمعهم ومجالهم الفني لمجرد المخالفة والا يكون ما يتعاملون به كاشفاً لنا خلو مرجعيتهم الثقافية التشكيلية أو تدني مستوى انتمائهم الإبداعي جعلهم يتنازلون ويخضعون أمام إغراءات سطحية لا تبقي لهم إلا الفراغ وخسارة المتلقي وتهكمه ولهذا ففي الحديث عنهم بأي صفات أو نعوت تطابق فعلهم تشعرهم بتحقيق الهدف الذي يمثله المثل المحلي(خالف تذكر) ويقصد بها أن ما يخرج عن القاعدة العامة أو المتوافقة مع مستوى ومتطلب أي عمل يلامس الذوق ويحمل هدف الارتقاء به يعتبر حالة شاذة يقابلها الرفض أو التجاهل ويصبح تأثيرها ودورها هامشياَ في تحقيق المبتغى، لهذا نعود مرة ثانية لنستكمل ما نحن بصدده ونضع النقاط على الحروف مع تأكيدنا مرة أخرى على أننا مع كل جديد جيد متميز يشعرنا بذكاء المبدع وقدرة الفنان المحلي على أن يكون عادلاً في الإمساك بكفتي الميزان جامعاً كل مقومات إبداعية مزجها بمعطيات الثقافة الحديثة دون تخل عن الموروث الفكري والإنساني الذي نعتز به ساعياً لاثبات حقيقته أشكالاً ومضامين مع صياغة معاصرة لا تسقط حقه أو أن تنثره في مهب ريح التغيير.
ومن المؤسف أن من تجاوب مع هذا التوجه والانسلاخ أسماء لها تجاربها الكبيرة والهامة ولديها القدرة على المنافسة العالمية بما قدمته من إبداعات شهدت لها الساحة التشكيلية العربية ولامست العالمية وكانت اقرب للولوج في معتركها الكبير بكل ثقة في حال توفر الداعم لها بشكل منفرد ونعني به القطاع الخاص مع أن هناك تجارب مماثلة حققت الحضور الا أنها لم تكن تحمل هوية الفن المحلي العربي أخذ على هؤلاء الأحبة سرعة تأثرهم بالكلمة والعبارة الرنانة التي أخذتهم نحو ظلمة البحر لا إلى المرفأ الآمن استغلت فيها مجاديف ناعمة الملمس جارحة حتى العظم يقول أصحاب تلك الآراء أو التوجهات ممن يحملون أمانة التغريب مع التماسنا العذر لهم بأنهم أجهل من أن يصبحوا مبشرين كونهم يتحدثون بما لا يفقهون فوجدت لها من بين الفنانين آذاناً صاغية وعقولاً خأوية أيقظوا فيها مشاعر معينة ورسموا فيها طرقاً زرع أولها بالزهور والآمال والأحلام بأن مثل هذا التوجه وتلك الأساليب سبيل إلى العالمية متجاهلين مع سبق الإصرار معرفتهم بأن الفن الحقيقي والابداع فيه اذا لم يخرج من رحم بيئة وثقافة الفنان فإنه يصبح هزيلاً لا يستطيع مقأومة أي صدمات أو تحديات تفرض عليه التبعية ونسي أولئك المصفقون لمثل هذه السقطات أن ما يقومون به هو تسويق لبضاعة لم تجد لها زبوناً في مكان تصنيعها ولنا في مثل هذا الواقع الكثير من الأمثلة ولنا أيضا كثير من العتب على من يعي بداية تلك التجارب وما وصلت إليه من انحدار في العالم وعدم رضا أو قبول من السواد الأعظم من النقاد والمقتنين ومن أصحاب المتاحف العارفين بأسرار وحال الفنون وبقاء تلك الأساليب في حيز إسقاط حجر في مجرى نفايات تسد الأنوف تفادياً لرائحته النتنة عند المرور به ورغم ذلك يبحثون عمن يقتنع بنشره في مواقع جديدة في مختلف المجتمعات.
بين الجنون و المغالطة
ذكرنا في الحلقة السابقة أن من ينتهج هذا التوجه يعتبر في نظر الكثير من النقاد وكثير من المتابعين حالة من حالات التمرد على المتعارف عليه من الفنون التقليدية يتجاهل فيه ممارسوه أي رأي أو ردود فعل معتمدين فيه على الكثير من الرؤى والنظريات منها أن ما يقومون به مرحلة مغايرة لما عرف من تعامل مع الفن كرسم وتلوين ووصف الجديد بالفراغية الإيجابية عبر هجر التعامل مع تلك المهارة التقنية، دون ملامسة للواقع وتحديد موضوع أو مضمون وإنما اعتماداً على وميض بصري عابر ليس فيه أي استيعاب لمشهد ما أو مطابق له ليصلوا إلى لحظة ولادة ما يتشكل في وجدانهم من رؤى ومشاهد لا تتعدى حدود الفكر والفكرة الذاتيتين اللتين يتملكهما الفنان فقط دون أدنى علاقة بالآخر والأمثلة كثيرة مع ما طرأ عليها من تبدل وتغير وانسلاخ مع ان تلك البداية كانت وما زالت محمودة العواقب خصوصا في فنون القرن العشرين وهي الفترة التاريخية التي حققت فيها الفنون التشكيلية العالمية تبدلاً كبيراً في الأنماط والاشكال تزعمها وأصبح رواداً مهمين ومؤثرين فيها الكثير من الفنانين منهم الفنانين سيزان وفان غوغ وغيرهم من الانطباعيين والتاثيريين بكسرهم ونفيهم لكل ما يمت لفنون عصر النهضة بأي صلة أو علاقة، متخذين من الفن رسالة ترتكز على العلاقة الصادقة والحقيقية مع الطبيعة باحثين في سبل الابتعاد عن المحاكات واعتبار ما يتم القيام به على اللوحة انعكاساً للواقع بكل ما فيه مستخرجين لهم مفاهيم جديدة تؤكد أن أقصى درجات الكمال في العمل هي في الوصول الى المفهوم الحقيقي لجمال الطبيعة بتحليلها وفلسفتها بصريا، ومن هنا وعبر الكثير من التجارب والبحث عن تفسيرات متعددة ومختلفة النتائج والمفاهيم وصل البعض منهم الى أن وجود الجمال يكمن في الإخلاص للشيء أياً كان ذلك الشيء ومن ثم الانغماس فيه حتى لو كان قادما من منطقة اللاوعي وسعى أولئك المجربون والباحثون ونقادهم ومنظروهم إلى إبراز فنون هذا القرن وحث الفنانين على تجاوز التسجيل المباشر الحرفي (الفوتوغرافي) فما كان منهم وفي نشوة تلك الثورة التشكيلية الا التحرك نحو ابتكار البدائل مما تسبب في التفرق والانقسام حولها بين الفنانين إلى فئات طبقا لما وصل إليه كل منهم من استنتاجات وتجارب، تنقلوا خلالها في العديد من الأساليب دون أن يتمسك أو يتوقف أي منهم بأسلوب معين فتنوعت مشاربهم.
وحينما نمر ببعض تلك الأساليب والتجارب والمدارس وروادها فسوف نلمح ونوجز لمعرفتنا أن الكثير من الفنانين التشكيليين خصوصا الدارسين لتاريخ الفن أو ممن لديهم الثقافة التشكيلية ما هم في غنى عن سرده ولهذا يمكن لنا ان نشير إلى ما يهمنا منها وما نحن بصدده فمن تلك الأساليب أو المدارس ما أطلق النقاد على الابداعات الأدبية من مسميات فوجدوا في العمل الفني نقطة التقاء فشملتها تلك التسميات منها على سبيل المثال الفن الساذج والدادية والسريالية والبوب آرت ومنتهجو فن تشويه الواقع أو الطبيعة ثم الوحشية مروراً بالتكعيبية والتجريد اللاشكلي إلى آخر المنظومة منهم من يستلهم أعمالهم من مختزل طفولي بما فيها من أسرار ومن مؤثرات إيجابية كانت أو سلبية متنكرين عند أدائهم للعمل الفني للسائد من الشروط أو المواصفات أو القواعد الفنية المتعارف عليها ليأتي تعاملهم مع ابداعهم من منطلقات ومستجابات لمحرضات مبهمة تحكي واقع أحداث مرت بهم في مراحل تكويناتهم الذهنية الأولى هؤلاء الفنانون لهم مساحة من الاحترام والتقدير في كثير من المعارض ويبقى ابداعهم مالكا نكهة خاصة وطعما متميزا لم يداخله أي طمس أو تغيير.
وكما ان هناك من الفنانين من انساقوا خلف شعارات خاصة تدفعهم إلى تعرية الواقع معادين فيها كل ما يتعلق بما هو مفرح وسعيد ومتفائل رافضين أي دعوة للعيش في الحياة بواقعية نتيجة لما عصف بهم من ظروف الحروب والمآسي فصدموا بما خلفته تلك الحروب من تدمير وتشريد فأذعنوا وجعلوا من اعمالهم الفنية ما يدل على الاستسلام للفوضوية والتعامل العشوائي والايمان بمنطلقات تدعو إلى تفكيك الشكل في الواقع واعادته بنمط جديد لا يخلو من العشوائية باعتبار أن أي عمل يقدم على هذا النحو يمثل نوعا من الابداع الفني ومنها المدرسة السريالية في الأدب والفنون التشكيلية اتخذ أصحابها شعاراً قالوا فيه إن كل ما هو عجيب فهو جميل ويعني ذلك أن يطلق صفة اللامعقول على كل ما هو تافه مع انهم يتعاملون مع عناصر الطبيعة بكل دقة عند توظيفها في أعمالهم التي تخرج في النهاية مطابقة لبيانهم ولتوجههم بأشكال ورموز عجيبة كما نراها في أعمال السرياليين وهي المدرسة التي ولدت تحت انقاض الثورة الفرنسية في الأدب ثم الفنون المختلفة.
لذلك، نرى أعمالهم تظهر أي إيحاءات ورموز طمس فيها الواقع وأقصيت مختلف صوره وأشكاله الجميلة تماما مما جعل مثل هذه الأساليب أو التوجه التقني والفكري نفقاً طويلاً تواصلت حلقاته ليأخذنا نحو المجهول ويبتعد بنا عما نحن في حاجة إليه.


الأسبوع القادم
* نماذج من الأعمال المعاصرة الحديثة في الفن المحلي
* هؤلاء حددوا هدفهم والتزموا لإبداعهم المعاصر بأمانة
* لجان التحكيم ولجان إعداد المعارض شركاء في التغريب.

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved