الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 23rd June,2003 العدد : 17

الأثنين 23 ,ربيع الثاني 1424

أعراف
في تواصل مع الغذامي حول الصراخ والسياج، والصمت والنساء، والمهمَّشين والوجهاء
محمد جبر الحربي

ليس الصراخ بحكمة، والا لكان البرلمانيون العرب، والغوغاء، والمعلقون الرياضيون، واغلب الشعراء: شعبيهم وفصيحهم، والخائب من المذيعين، وباعة احذية الكلمات، وتجار العبارات، ومسوقو العاطل من الشعارات، كل هؤلاء وغيرهم، ممن تزدان بهم الواجهات العربية اليوم، احكم الناس وأبلغهم.
ولكان مطرب الدرجة العاشرة "حكيم" حكيما فعلا وهو يردح صارخا: "الكلام بيجيب الكلام".
والدكتور عبد الله الغذامي يصدق الرؤية حين يرى في هذا التقسيم الطبقي بين "من يحق لهم القول البياني ويشاد بقولهم، ومن لا يحق لهم ذلك، فالصمت للنساء والاطفال والمهمشين ومن يمكن تسميتهم بالرعاع، وهم جماعات السكوت الذهبي والصمت الحكيم، ويقابلهم الفحول والوجهاء وذوو السيادة ممن هم أهل البلاغة والقول المسكت".
حين يرى انه نتاج "ثقافة قديمة"، وان المقولة "ليست علامة صحة ولا هي علامة اخلاق وتأدب وان كانت في الظاهر كذلك".
ولكننا لن نطلب من النساء الصراخ، لأنه لو رأى وسمع صراخ شريحة ليست بالصغيرة من النساء في الاسواق، او حتى في الجامعات، او على الجوال لازداد شعره شيبا، ولحن الى صمت الجدات الحكيم، وصبرهن المقرون بأفعالهن العالية، ولألف كتابا عذبا عن الخفر الجميل.. والصمت المحتشم لا المعطل.. المتوازي مع جمال البوح، لا الفضح والصراخ.
أما المهمَّشون فلعل في السؤال: لماذا همِّشوا؟! اولى الخطوات العملية نحو نزع السياج.
وأما الوجهاء فلعل بيت زهير الذي أورده ينطبق على نماذج منهم تملأ المكتبات كتبهم ودواوينهم حتى اصبح إصدار الكتب لدى بعضهم وجاهة وعادة موسمية كما السياحة الا ان في الاخيرة منافع شتى.
ونرى نحن ان الصمت زاد المبدع في بحثه عن نهر المعرفة، واشجار الكلام.
وهو غيوم الكلام حتى تبرق، واصطبار القادرين، وتفرد القمم عن السفوح. والصمت جلال الاشجار، وحكمة البلغاء والشرفاء والمترفعين عن زحمة الجهل، وصراخ المهرجين "المحرِّجين" على مقدرات الامة وثوابتها، وآلامها وآمالها.
اما المنافقون فهم خونة الأمة، وسبب رئيس من اسباب تدهورها وضياعها. ولكن اول آياتهم الكلام لا الصمت. وكاشفهم وفاضح نواياهم الكلام الكاذب "إذا حدَّث كذب".
وكثرة الكلام ككثرة الضحك تميت القلب، وعلوهما ينفِّّر السامعين ويقودهم حتما الى اقرب مخرج آمن.
والكلام مقرون بالخير، والا فلا يكتفى بطلب الصمت، بل يؤمر به "فليقل خيرا او ليصمت".
ولا خير في كثرة الكلام، ولا كثرة التواجد، اذا كان في الاول تكرارا لما يقال "وتجزئة للمجزأ، وتصنيفا للمصنف"، وفي الثاني تمظهرا مسطحا فارغا.
ومن اكبر مصائبنا كثرة المتحدثين، والصارخين وندرة المنصتين.
ومن مآسينا ان "السامعين" يتكلمون ولا يسمعون، ومن ذلك كثرة الالسنة وقلة الآذان رغم ظهورها، او تمظهرها. ومن ذلك ايضا كثرة "المداخلات" على كلام لم يدخل اصلا لا حيز الابداع، ولا الآذان.
ورغم ان "خير الكلام ما قل ودل" إلا انه لا دليل يهدي المتكلمين الى ذلك، فما بالك بالصارخين.
ومنتهى المرام الجمع بين بلاغة الصمت، وجدة الكلام وجديته.
ولربما كان من المصادفة أن كتبت موضوعا بتاريخ 25 ربيع الاول في زاويتي "أعراف" تحت عنوان "لا تأتوا اليوم.. تعالوا غدا" تساءلت فيه:
اين هو إبداع الصمت الذي يبدو أن الاغلبية لا تجيده؟! فيما كتب الدكتور مقالته "الصراخ حكمة" بتاريخ 5 ربيع الآخر في الشقيقة الرياض.
وقد وعدت فيها بأن أمنح من يصمت صمت أناة من الذين يخدشون اعيننا كل يوم بما "طال وقل" جوائز تقدير، ودروعا ذهبية، واقلام "باركر" واحذية رياضية لسباق المسافات الطويلة، اضافة الى تدبيج المدائح والدراسات والبحوث عنهم وعن اعمالهم.
ثم طلبت منهم ألا يأتوا الينا اليوم رمالا من التكرار، وأن يأتوا غدا جبالا من الفرادة يكللها الغيم.
ولا يفهم من هذا، انني هنا أعارض الدكتور، فأمجد الصمت. فأنا من اوائل من فتحوا "نافذة الكلام" الا ان ابي علمني "أن اقول الذي لا يقولونه كل مرة" فيما علمتني الحياة ان اصاحب الجبال الشامخة وأستمتع الى الاشجار العالية الجليلة، وأتعلم منطق الطير في صمته، او غنائه الخفيض.
لانني رأيت ان الضفادع اكثر الكائنات ازعاجا، لانها اكثر صراخا، وكان بامكانها ستر نفسها، وكان بإمكاننا عدم ملاحظتها، او تركها في شأنها لولا نقيقها المزعج فهي ملومة لانها لم تتعلم حكمة الصمت، وكأنها ارادت منافسة اكداس من مطربي اليوم في نشر الذعر والقبح والانحطاط.
والكلام، كالصراخ والصخب، خداع ايضا، ومن امثلتنا الحية رامسفيلد وباول وستر وبلير وبوش، وهم من اكثر الناس كلاما وصراخا، الا ان جل الحكماء والعقلاء من ابناء جلدتهم شهدوا لهم بالحمق لا الحكمة.
ونحن هنا لسنا بحاجة الى الكلام والصراخ، بل بحاجة الى التأمل في ظواهر المجتمع، فالحكاية تبدأ من هنا، واشار الى نفسه، لأن مشكلتنا تكمن في "التطبيق على المجتمع"، ونسيان الذات المتكلمة والقفز بها بعيدا عن المرآة، ورفعها غرورا عن امكانات الوقوع في الخطأ، لأنه لا مجال لدى هؤلاء للوقوع في الخطأ، الى درجة إحلال الفرد منهم منازل العصمة، وهي منهم براء.
فهنالك "مثقف محصَّن ضد مزالق المجتمع" وهناك "مجتمع جاهل" ولما قسنا ذلك على الواقع تبدَّى لنا ان السواد الاعظم هم ادعياء ثقافة، وان المجتمع هو صاحب العقل والتفتح والتسامح والنبل والخصال الحميدة.. والاناة والصرب والوفاء بالعهود والوعود، والنظام لا الفوضى..
فيما يتسم عدد كبير من "المثقفين" كما أسموهم، او أسموا انفسهم "الضحالة" وصولا الى التعجل" اذا انا أدعو هنا الى ثقافة التأمل حتى اذا ما خرجت الحروف خرجت خيولا فاتحة في اول الركب، واثارت النقع، وأسرجت المعاني للشمس.
واما بالنسبة للمقولات المأثورة كالصمت حكمة، واذا كان الكلام من فضة.. الى آخر ذلك. فيشترط الا توضع في غير سياقها الذي نزعت منه.
وجميعها مرتبط بأحداث معينة كان الصمت فيها احكم، وكان السكوت فيها من ذهب فعلاً.
اما كون العرب ظاهرة صوتية فذلك لانتقاء تحقق الاقوال، والاقوال لا تتحقق الا بزوال السياج، والسياج ليس سياج الصمت، فسياج الصمت يأتي تاليا بعد اسيجة الجهل والخوف والفقر والهزيمة والتخلف.
واجزم ان لدى العرب من الفكر والمفكرين، والثقافة والمبدعين ما يبني حضارات لا حضارة واحدة.
ولديهم في البحوث والاحصاءات والحلول في ادراج الجامعات، ومنها الجامعة العربية ما يكفي لحل مشاكل العالم.
ولديهم من الطاقات المعطلة ما يكفي لبناء الف سياج، لا عليهم، بل على اعدائهم.
ولديهم من العقول العسكرية ما يكفي لحصار الف شارون.
فالمشكلة ليست مشكلة أصوات.. انها مشكلة افعال.
اما الظاهرة الصوتية المجسدة على البياض، فهي كارثة عندما نتمثلها في عشرات بل مئات الروايات والدواوين وأضعافها من الدراسات والبحوث والقراءات العجلة حولها ترويجا وتسطيحا لما هو سطحي وبارد.
وارفع الدكتور عن مقاماتها، ومقالاتها، وادعو له بالنجاة الى مخارجها.
اذاً نحن هنا بين الصمت المطبق، والصراخ المزعج. وبينهما منزلة وهدف. المنزلة تأمل، والهدف قول جامع مانع ممطر.
فلنستعن بالله على كثير من الصمت من اجل قليل من الكلام الفاعل النافع.
وللدكتور الفاضل، والمثقف الاصيل منا كل الحب الصارخ، والإعجاب الصامت من قبل السياج ومن بعد.
ومن اجل رضا عينه لتكل عن عيوبنا نمالحه فنقول تجاوزا ان شوقي لم يبدع الا عندما "تعطلت لغة الكلام".
وان الحر يفهم بالاشارة لا بالصراخ.
فكم من حرة أنقذت "فحولا" من مواقف بإشارة، او قامت بواجب الكرم والضيافة بغمزة عين تشير منها الى اهلها وكل ذلك محفوظ في تراثنا، واقوالنا المأثورة.
وقبل ان أسدل ستارتي، واعود الى عزلتي وصمتي وفي الارض منأى ومتعزل اود ان اترك شيئا من جمال المتنبي لجمال الغذامي:
ودع كل صوت غير صوتي فإنني
انا الصائح المحكي والآخر الصدى
فمن ناحية انت تصيح بالناس، ولا تصرخ في وجوههم. ومن ناحية اخرى ان لا حاجة للصدى، اذا حضر الصوت الحقيقي والفاعل. لا حاجة لكثرة الاصوات ولا الى علوها متى تشابهت.
وازيده شوقا:
اذا سأل الانسان ايامه الغنى
وكنت على بعد جعلتك موعدا
فإلى موعد آخر مع غنى النفس، وثراء الحب، واكتناز العقل بحكمة الصمت المتأمل المصغي وأصوات الحق والخير والجمال.
+++++++++++++++++++++++++++
mjharbi@hotmail.com
+++++++++++++++++++++++++++
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved