الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 23rd June,2003 العدد : 17

الأثنين 23 ,ربيع الثاني 1424

مقهى ولا كالبرازيل
عبد السلام العجيلي

تقول العرب في امثلتها: مرعى، ولا كالسعدان. والسعدان نبات مغذٍ للحيوانات التي ترعاه يكثر حليبها بأكثر مما تفعله نباتات المراعي الاخرى.. وهم يعنون بهذا ان بعض نباتات الرعي قد تستطاب ولكن ليس مثل السعدان. وانا استعير هذا المثال في حديثي عن مقهى له في ذاكرتي، وفي بعض مراحل حياتي، وربما في ذاكرة آخرين من امثالي وفي مراحل حياتهم، وجود واثر مهمان.
وللمقاهي في بلدان الشرق، والبلدان العربية منها، حضور بارز ودائم. وتتميز في بلادنا بأنها مجالس للرجال تكاد تكون محرمة على النساء، الا ما استحدث منها على الطراز الاوروبي في العقود الاخيرة من السنين، في بعض مدننا لا فيها كلها، وبقدر محدود على كل حال. اذكر اني، في اول الخمسينيات من القرن الفائت، نزلت مرة من الباخرة في ميناء الاسكندرية قادماً من اوروبا فسلكت الى قلب المدينة، راكباً عربة الترام، شارعاً طويلاً وضيقاً تصطف على جانبيه مقاهٍ متلاحقة ومزدحمة، شغل روادها الارصفة بكراسيهم بعد ان ضاقت عنهم قاعاتها. كانت الى جانبي على مقعد الترام سيدة المانية هي احدى رفيقات الرحلة في الباخرة دهشت السيدة لمنظر اولئك الرجال الكثيرين المزدحمين على الارصفة بين شارب قهوة وشاي وبين مدخن اركيبلة او لاعب بالنرد او الورق.. سألتني.. ماذا يفعل هؤلاء الرجال الكثيرون في هذه الامكنة؟ قلت انهم يقضون وقتهم في المقاهي المنتشرة. قالت: كلهم رجال، فأين نساؤهم؟ قلت في البيوت. قالت: ولماذا لا يكونون هم ايضا في البيوت معهن؟
لم اجب السيدة المندهشة آنذاك بغير الابتسام. الجواب سواء اكان تفسيراً او تبريراً كان يمكن ان يطول.. ما اريد قوله هو ان مقاهينا منذ نشأتها هي مجتمعات ذكورية بالدرجة الاولى. وما منا من تخلف عن ارتيادها منذ يفاعتنا او اول شبابنا، متنقلا بين صنوفها المختلفة. بعضنا يتنقل في البلدة الواحدة بين مقهى وآخر، وبعضنا يظل اميناً لمقهى واحد لا يتجاوزه الى غيره الا مضطراً او لظرف طارىء. ولعلي معدود من الفريق الاخير في هذا الامر. وفي دمشق بصورة خاصة حيث كانت لي في حياتي المديدة اقامات كثيرة بين دائمة ومتقطعة، كنت مستمر التردد على مقهى واحد، ومعروفاً بهذا التردد، هو مقهى البرازيل. انه المقهى الذي كان واقعاً في زاوية حي البحصة المنفتحة على شارع 29 ايار، قبالة مقهى الهافانا الذي ظل في مكانه الى اليوم، لم يزله تنظيم ازال مقهى البرازيل من الوجود قبل اكثر من عقدين من السنين.
واسم البرازيل مقرون بمقاهٍ متعددة في مدن مختلفة، منها بيروت وحلب، سبق ان ترددت عليها ولكن ليس بقدر ترددي على مقهى دمشق الذي اخصه بحديثي هذا. بدأت معرفتي بهذا الاخير في ايام دراستي الطب في اول الاربعينيات من القرن الفائت. كنت امر في الاصيل او بعد الغروب، في عودتي من ابنية الجامعة او في جولاتي المسائية في شوارع دمشق، امام هذا المقهى فيلفت انتباهي بصغر مساحته التي لا تعدو مساحة دكاكين من الدكانين المجاورة، وبقلة عدد طاولاته التي يتجمع عليها زبائنه الكثر بالنسبة الى حجمه، وبنوعية اولئك الزبائن التي تدل على انهم من مستوى اجتماعي وثقافي فوق المتوسط ومتجانس، وبخلوه مما تحفل به المقاهي الاخرى من ادوات التسلية كطاولة النرد او الشطرنج او ورق اللعب، وحتى من الاراكيل التي يكثر مدخنوها في المقاهي التي ارتدتها او شاهدتها. اذا كان رواد المقاهي يؤمونها لقضاء الوقت كما قلت لتلك السيدة الالمانية في طريقنا الى قلب مدينة الاسكندرية فإن رواد هذا المقهى يقتصرون، على ما تبين لي، في قضاء اوقاتهم فيه على امرين اثنين لا ثالث لهما، هما القراءة والكلام المتبادل فيما بينهم.
لست اذكر اليوم كيف دخلت لاول مرة الى هذا المقهى الذي لفت انتباهي بخصائصه المذكورة اعلاه، كنت لا ازال طالباً في بداية دراستي الجامعية، وكنت معروفاً بين اصدقائي، وبينهم محررو صحف شباب، بأني اكتب في دوريات دمشق وبيروت وان كنت اوقع اكثر كتاباتي، وربما كلها في ذلك الحين، بأسماء مستعارة تخوفاً من الشهرة واستجابة لطبعي الانطوائي. فلعل اولئك الاصدقاء الشباب هم الذين جروني الى مرافقتهم الى ذلك المقهى. اعجبتني خصائصه التي تحدثت عنها وراقني ان اصبح زميلاً لرواده الذين كان اغلبهم يفوقونني سناً ومعرفة وشهرة في الميدان الذي اعد نفسي من منتسبيه، واعني به ميدان الادب والفكر والثقافة.
بين اولئك الرواد كان اساتذة جامعة وادباء مشهورون من كتاب وشعراء، وكان بينهم صحفيون محنكون ومبتدئون ومثقفون جادون وساخرون. كما كان بينهم متنطعون يتمسحون بالمثقفين ليعدهم الناس منهم. وهؤلاء الاخيرون كان يثيرون سخرية حملة الثقافة الحقيقية بتنطعهم، فيجعلونهم هدفاً للانتقاد واطلاق النكت المتلاحقة. وعن هؤلاء المتنطعين كتبت في ذات يوم مقالتي التي سميتها "المقامة البرازيلية"، التي سأتحدث عنها فيما يأتي. على ان سخرية اولئك المثقفين الحقيقيين من رواد البرازيل لم تكن تقتصر على هؤلاء المتنطعين بل كانت تتعداهم الى ساسة البلاد وحكامها، والى البارزين في المجتمع من منتفذين ورأسماليين، وكل من يستحق ان ينتقد من اصحاب المقامات العالية. والسخرية من هؤلاء الاخيرين كانت على ما يقال وراء تباطؤ موكب جمال عبد الناصر امام مقهى البرازيل، في اولى زيارات الرئيس عبد الناصر لدمشق بعد قيام الوحدة بين قطري الجمهورية العربية، الجنوبي والشمالي، فقد رووا ان مرافقي الرئيس اشاروا الى المقهي حين اصبح الموكب امامه وقالوا له:
هذا هو المكان الذي تكثر علينا التقارير عن رواده وتنكيتهم على الحكم والحكام والسخرية والانتقادات عليهم وعليه.
ولابد من ان اذكر أن من بين رواد المقهى بصورة خاصة ضابطاً بريطانياً شاباً، كان يلازم المقهى في ايام متلاحقة بين الحين والحين، فينزوي على طاولة لوحده منصرفاً الى كتاب بين يديه يقرأه، لا يتحدث الى اي من زبن المقهى. كانت الايام ايام الحرب العالمية الثانية، وعرفنا ان هذا الضابط الشاب هو ابن الوزير اللورد موين، ممثل الامبراطورية البريطانية في مصر وسائر بلدان الشرق الاوسط وقد اغتال الارهابيون الصهاينة بزعامة اسحاق شامير اللورد موين اثناء الحرب لمعارضته المشاريع الصهيونية على ما قيل في ذلك الزمن، فهجر ابنه المقهى ودمشق كلها بعد ذلك الاغتيال.
وجدير بي وانا اتحدث عن مقهى البرازيل ان اتوقف عند صاحبه ومديره الذي هو السيد خليل دياب، ابو جورج. في روايتي "قلوب على الاسلاك"، وقد تولت الاونيسكو ترجمتها الى الفرنسية، رسمت صورة وصفية لهذا الرجل لفتت نظر قراء الرواية من الفرنسيين بصورة خاصة، فكان بعضهم يسألني عنه معجبين بشخصيته الساخرة في جد والضاحكة في حزم. كان ربع القامة، ازهر الملامح، ذا ثقافة فرنسية مقبولة وان لم تكن معمقة. ولأن رواد مقهاه في اغلبهم اساطين في اللغة العربية، فقد كان يحاول مجاراتهم في نقاشاتهم المتعلقة باللغة الفصحى، فإذا اعيته المعاني والعبارات تحول الى السخرية منهم ومما يتحاورون به. وكانوا يتقبلون لذع لسانه بسعة صدروهم وهم يدركون انه غير طامع منهم، وجلهم من محدودي الدخل، بغير مورد الكفاف الذي يسمح لمقهاه بالاستمرار في البقاء دون ربح كثير. بل انه اضطر في احدى المرات، وتحت وطأة العجز المادي، الى ان يتخلى عن زبائنه الذين كانوا في الواقع اصدقاءه في الوقت ذاته، وان يؤجر مقهاه الى شخص جعل منه حانوتاً لضرب النيشان. اعني ان مقهى البرازيل تحول الى دكان يتردد عليه الصبية المراهقون ليتدربوا فيه على رماية طلقات الخردق على اهداف من ورق الكرتون.
هذا الامر الاخير حدث في منتصف الخمسينيات الفائتة. وفي زيارة لي الى دمشق في ذلك الزمن تلقيت، حال نزولي في فندق سميراميس، هاتفاً مستعجلاً من الصديق نجاة قصاب حسن الذي كان يحرر زاوية بتوقيع "فصيح" في جريدة الرأي العام الدمشقية. قال لي: ألم تدر بما حدث لمقهانا؟ لقد اصبح محلاً لضرب النيشان. قلت سمعت بذلك وقرأت عنه. قال: هل قرأت ما كتبه عنا ابو خالد، سعيد التلاوي، في جريدته "الفيحاء"؟ كتب انه شامت بنا بعد تفرقنا نحن زبائن المقهى لإغلاقه، فقد كان وكراً نمارس فيه اغتياب الناس والسخرية منهم ودس الدسائس لهم. كما ان وصفي القرنفلي نظم قصيدة ظاهرها الشفقة بنا وباطنها الشماتة بنا، حين يدعونا الى ان ننتقل بضيافته الى مقهى الهافانا المقابل لنمارس فيه نشاطاتنا المعروفة واضاف قصاب حسن قوله: لقد كتبت في زاويتي دفاعا مكرراً عن المقهى وروداه، وما دمت انت قد حللت البلد فلابد ان تشاركنا في هذه المعركة الدائرة حول اغلاق المقهى.
كان لابد لي ان استجيب الى ما طلبه مني نجاة. امليت عليه في منتصف الليل، والجريدة تحت الطبع، هذه الأبيات التي ظهرت في زاويته في صباح تلك الليلة:
قف بالطلول وقل يا دمعتي سيلي
اخني الزمان على مقهوى البرازيل
كأن جدرانه لم تحو ندوتنا
ولا تضارب فيه القال بالقيل
ولا سقانا خليل فيه قهوته
مغشوشة بشعير الهند والفول
تلك الموائد كم حيكت بجانبها
مقالب واعدت من احابيل
مقلاية الحق في ارجائها نصبت
لكل منتفخ بالعرض والطول
قالوا تدسون، قلنا ذاك ديدننا
ان ساد في الناس اصحاب الاباطيل
تحارب الظلم والطغيان ألسننا
اذا تقاعس كتاب الجرانيل
الشامتون بنا لا در درّهم
من ساسة الحكم او اهل الرساميل
لا يشمتوا، مقبل الايام يعلمهم
من ذا الذي يتبقى في الغرابيل!
ظهرت هذه الأبيات بتوقيع "بديع الزمان وبعيد المكان"، وهو واحد من التوقيعات المستعارة التي كنت اذيل بها بعض كتاباتي الساخرة. وقد تناقلتها صحف متعددة في ذلك الزمن وفي سنين كثيرة بعده كما تحدث عنا بعضهم في البرامج الاذاعية. ولم يكن كذلك حظ المقامة البرازيلية التي المعت عنها فيما سبق فهذه كتبتها لنفسي ولم تنشر في سوى كتابي "المقامات" الذي طبعته في نسخ محدودة خصصت بها الاصدقاء والمعارف، ولم تبع في المكتبات. وهذه المقامة البرازيلية تروي حواراً جرى بين طالب طب اسمه عبد السلام بن محب جرته قدماه في ذات يوم الى مقهى البرازيل، والتقى فيه واحداً ممن قلت عنهم انهم متنطعون يتحككون بالمثقفين الحقيقيين ليعتبروا في اعين الناس من طينتهم. ولا اريد ان انقل هنا المقامة بكاملها، بل اقتصر على رواية القصيدة التي ينظمها عبد السلام بن محب في المقهى وفي هذا المتنطع وامثاله. يقول ابن محب:
اربع على فتية عجف مهازيل
في الشام قد لزموا مقهى البرازيل
نعم الشباب وان كانوا ذوي هذر
وضيعوا العمر في شتى الاقاويل
هم ابدعوا الشعر في اوصاف قهوتهم
واكثروا القول في مدح وتهليل
حتى وجوههم قد شابها قتر
من طول ما لحسوا سؤر الفناجيل
ثاروا على الادب الرجعي وانبعثوا
يدعون حرى الى نبذ الاباطيل:
زيد وعمرو من الكتاب كيف رقوا
معارج المجد زورا دون تأهيل
لا هم زبائن قهوات ولا حذقوا
حرق اللفائف بين القال والقيل
ان الغلام الذي يحيا بجانبها
ادنى الى المجد من دانتي وفرجيل
ما دام في القرب من ابريقها ادب
فإن غرسونها اولى بتفضيل
وبالطبع، ما كان عبد السلام بن محب الا انا إذ كنت طالب طب في تلك الايام. وبالطبع كذلك لم يحل تخرجي من الجامعة وعودتي الى بلدتي المبعدة لأعمل فيها طبيباً من بقاء صلتي قوية بمقهى البرازيل. كان هو موئلي في كل زيارة لي الى عاصمة بلادنا، وزياراتي لها دوما كثيرة. وحين عدت الى دمشق عضواً في مجلس النواب. بعد نحو من عامين من تخرجي، ازدادت تلك الصلة قوة. كنت اقضي فيه اوقات فراغي والتقي فيه بأصدقائي القدامى والجدد، متبادلين احاديث السياسة والثقافة ومستمرين في السخرية والضحك مما كل يثير هذا وتلك في المجتمع والاوساط المختلفة وعن الشخصيات المختلفة. وحين توليت بعض المناصب الوزارية في عام 1962م ميلادية ظلت صلتي بمقهى البرازيل على حالها من القوة. وكمثال على ذلك وزيراً للخارجية في تلك الايام.
في حفل استقبال اقامه السفير الايراني في منزله اقبل صاحب الدعوة عليّ مجدداً تحيته التي استقبلني بها عند دخولي. قال لي، متحدثا بالفرنسية: لا تؤاخذني يا سيادة الوزير، هل تسمح لي بسؤال شخصي؟ قلت: بدون شك يا سعادة السفير، تفضل واسأل. قال: يتحدثون عن سيادتك بأنك عندما كنت طالباً جامعياً في هذه العاصمة كنت تتردد على مقهى ادبي معين، وبأنك اليوم، وانت وزير للخارجية، لا تزال تجلس فيه وتتناول فيه القهوة مع اصدقائك من زبائنه.. هل هذا صحيح؟
لم املك الا ان ابتسم لهذا السؤال، الذي كان السفير يعني به مقهى البرازيل. فحين كلفت بالوزارة كانت إقامتي في الاشهر الاول في فندق سميراميس على ضفة بردى. كنت استفيق، على عادتي، باكراً واخرج من الفندق قبل موعد دوام الموظفين العاديين، فكيف بالوزير نفسه! وكان مقهى البرازيل على بعد خطوات قليلة من فندقي، فكنت اتجه اليه في الصباح لأتناول قهوتي والتقي فيه بقدامى اصحابي لنتبادل احاديثنا المعهودة، الى ان يحين موعد ذهابي الى الوزارة، فأعود الى الفندق لتقلني منه سيارتي الرسمية الى عملي الرسمي.
لم اكن ادرك ان هذا الذي اعمله كل يوم بصورة عفوية كان يثير انتباه فيوليه اهتمامه. ولكن ها هو السفير الايراني يعلمني بأن تصرفي كوزير يتردد على ما يسميه الفرنسيون مقاهي ادبية، امر يثير الانتباه ويدعو الى التساؤل! ابتسمت كما اسلفت القول وقلت للسفير: هذا صحيح. انها عادة قديمة لي لم اجد ما يدعوني الى تغييرها.. اترى يا سعادة السفير انها مخالفة للاتيكيت وتعاليم البروتوكول؟ ضحك السفير وقال بحماسة: لا، اطلاقاً. اننا في اوساطنا الدبلوماسية، نتناقلها في احاديثنا ونراها امراً طريفاً ومعجباً.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved