الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 23rd August,2004 العدد : 73

الأثنين 7 ,رجب 1425

العرب بعيون يابانية صريحة!
يوسف عبدالرحمن الذكير

لعل أهم ما يميز المستعرب الياباني (نوبوأكي هوتوهارا) عن كل من سبقه من عشرات المستشرفين الأوروبيين، يكمن في ثلاث ميزات:
أولاها: تركيزه على الثقافة العربية المعاصرة، بشقيها: الأدبي وخاصة الروائي منه، والاجتماعي بكل ما يحويه من عادات ومعتقدات وتقاليد، دون أن يهتم بالجانب التاريخي، مثلما فعل العشرات من الأوروبيين، الذين كانت لهم اليد الطولى، لا في الكشف عن أسرار حضارات إهرامات وادي النيل، وسقارات وجنائن بابل المعلقة، وفك طلاسم الكتابات المسمارية والهيروغلوفية بكل ما حوته من ثقافات وقوانين، وحساب مواقيت وفلك وأساطير جلجامش وأورنس وأوزاريس، أو محاولات لفهم أسرار آثار مدائن صالح، ومقابر دلمون البحرين، ومعابد سبأ ومعين.. بل والفضل في حفظ وتحقيق ونشر العشرات من نفائس المخطوطات العربية الإسلامية المكنوزة في مكتبات متاحف لندن وباريس وليدن وبرلين ومدريد وهو فضل لم ينكره، بل وأشاد به المنصفون من أمثال علامة الجزيرة العربية الراحل، الشيخ حمد الجاسر رحمه الله.
ثانيتها: إنه لم ينطلق من أفكار جاهزة مسبقة، مثلما انطلق معظم المستشرقين الأوروبيين، فجاءت كتاباتهم، إما مريضة باحتقان قرون من الصراعات والأحقاد، أو سقيمة بانتفاخ غرور عصور الاستعمار الأخير، فاتسمت معظم مؤلفاتهم بالأزدراء والاستعلاء، مما حدا بالكثيرين للتصدي لها من مخلتف الشرائح والانتماءات الإسلامية والعربية، إذ لم تقتصر الردود على أبرز علماء الدين الراحلين من أمثال الماوردي وإقبال والأفغاني وعبدالعزيز ابن باز رحمهم الله أجمعين، أو الحاضرين من أمثال القرضاوي والغنوشي، بل ولم تنحصر في مؤلفات رؤساء مسلمين من أمثال محمد خاتمي في كتابه (الدين والدولة) وعلي عزت بيجوفيتش في كتابه ( الإسلام بين الشرق والغرب) بل وتصدى لهم حتى المفكرون العرب من غير المسلمين، والذين قد يكون من أشهرهم، المصري أنور عبدالملك، والفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه الذائع الصيت (الاستشراق)، الذي أثار حفيظة المتطرفين المتصهينين إلى درجة أن استصدروا قانوناً يمنع مناقشة أعماله في بعض جامعات الغرب!!.
فالمستعرب الياباني (نوتوهارا) بعيداً عن كل تلك الأمراض والأورام، بل إنه رفض كل ما قد يؤثر على موضوعية تقييمه وأحكامه، سواءً من أقرانه اليابانيين، الذين نصحوه أن ما من شيء يستحق الاهتمام بالأدب العربي، سوى الشعر الجاهلي في الماضي، ومؤلفات نجيب محفوظ في الحاضر، أو التأثر بكتابات الغربيين المناهضة للعرب والمسلمين!.. فيقول كم كنت مصيباً في رفض كل تلك الآراء المضللة، التي ثبت خطأها وسطحيتها، وهو ما يقود إلى الميزة الثالثة، والتي قد تكون أهم الميزات!.
***
الميزة الثالثة: تكمن في أن (نوتوهارا) لم يعتمد في دراسته وتقييمه للثقافة العربية المعاصرة على كتابات وآراء الآخرين، بل ولم يكتف برحلة استكشافية عابرة، وإنما اختار المعايشة والمتابعة الشخصية، فليس من رأى كمن سمع، ولا من عايش عن قرب، كمن قرأ عن بُعد!.. فقد كرس (نوتوهارا) أربعين عاماً من حياته في دراسة الأدب العربي المعاصر، وأمضى
ما يقرب من ثلاثة عقود لم ينقطع طوالها عن زيارات سنوية للعالم العربي، عايش خلالها مختلف الشرائع الاجتماعية العربية.
فقد بدأ اهتمامه بالأدب والثقافة العربية منذ عام 1961م، حين أعلنت جامعة طوكيو عن افتتاح قسم للدراسات العربية، فكان من أوائل الملتحقين به، ليغدو بعد أربع سنوات دراسية، أحد أول المعيدين في ذلك القسم، وما أن أثبت جدارته وشغفه وتفانيه في دراسة الأدب العربي من خلال ترجمته لروايات عربية معاصرة مختارها إلى اللغة اليابانية، حتى أرتقى لمرتبة استاذ زائر في جامعة (طوكاي)، مما أهله للحصول على منحة دراسية بجامعة القاهرة لمدة سنتين عام 1974م، كانت بمثابة بداية مرحلة المعايشة، التي لم تنقطع ولم تتقصر على مصر، بل زار العديد من البلدان العربية، هادفاً التعرف على مختلف المجتمعات العربية.. لم يكتف بقضاء شهور طويلة في أرياف مصر، لتعلم اللهجة المصرية بين فلاحي محافظة الشرقية، بعدما صعب عليه فهم حوار رواية (الأرض) لعبدالرحمن الشرقاوي، والتي أعجب بها إلى درجة أن قضى 3 سنوات في ترجمتها!.. بل وقضى شهوراً طوال في بادية الشام متعرفاً على بدورها ولهجاتهم، بعدما أطلع على مؤلفات أدباء الصحراء من أمثال عبدالسلام العجيلي، وإبراهيم الكوني، وعبدالرحمن منيف.. ليزور المغرب عقب اطلاعه على مؤلفات كبار كتابها من أمثال محمد براده وعبدالكبير الخطيبي، وعبدالجبار السحيمي، ليتجول بصحبة مبدع رواية (الخبز الحافي) محمد شكري، بين أحياء مراكش وطنجة وتطوان، مثلما تجول بين مقاهي وأزقة اللاذقية، بعدما أعجب بروايات (الياطر) و(الشراع والعاصفة) للكاتب السوري حنامينه.. فمن مزاياه الفريدة، أنه لا يكتفي بمعايشة أجواء ما يعجب من روايات الأدب العربي المعاصر، من خلال الصفحات والسطور، وأنما يتحمل المشاق والصعاب، ليعيش أجواءها في بيئتها الطبيعية.. بل ونراه في سبيل التعرف على مختلف سمات المجتمعات العربية، يمضي بلا وجل في رحلة استكشافية وعرة، ما بين جبال ووديان اليمن، فلا عجب أن جاءت دراسته عميقة الغور، جريئة النقد والانتقاد، مفعمة بمشاعر المشاركة الإنسانية الصادقة، جديرة بالقراءة لا من أبناء جلدته فحسب، بل ومن العرب ذاتهم، لما تكتنزه من رؤى وآراء صريحة لا يشوبها تزلف أو نفاق، ومعلومات أدبية بليغة ثرية، قد لا يعرفها معظم أبناء لغة الضاد، عن روايات أبدعها أدباؤهم المعاصرون، لا بسبب قلة اهتمام، ولكن لحجب وأستار، أقامها العرب بأنفسهم لأنفسهم، لتحجب عنهم أزهى إبداعات أدبائهم المعاصرين، فها هي تترجم لغيرهم، بل وتدرس في جامعاتهم!!.
***
لم يقتصر (نوتوهارا) في دراسته المتعمقة، على مشاهير الكتّاب المصريين، من أمثال نجيب محفوظ المعجب بثلاثيته أو يحيى حقي والشرقاوي الذي ترجم له روايته، بل وحتى يوسف إدريس الذي صنف أدبه، عالمي المستوى، فترجم له من المؤلفات أكثر مما ترجم لأديب أخرى،
لينقل لقرائه اليابانيين، صورة واقعية معاصرة للمجتمع المصري بكل تشعباته الحضرية منها، والريفية والساحلية.. بل وربّما كان له الفضل الأكبر في إزالة الغشاوة عن عيون الشعب الياباني، فيما يخص مأساة فلسطين وتشريد الملايين من الشعب الفلسطيني، من خلال ترجمته لأبرز أعمال الأديب الفلسطيني الشهيد (غسان كناني)، وعلى رأسها روايته التي هزت وجدانه (عائد إلى حيفا)، فكانت إلى جانب ما ترجمه مستعربون يابانيون آخرون من روايات فلسطينية أخرى لا تقل إبداعاً، كالمتشائل لأميل حبيبي، و (رسالة لصديقي اليهودي) لإبراهيم الصوص، بمثابة عواصف أزاحت عتمة غمائم الأعلام الغربي المتصهين، ليرى الشعب الياباني بكل وضوح أبعاد ماساة، لم تقتصر على اغتصاب وطن الشعب الفلسطيني، بل وحاولت اغتصاب ثقافته وتاريخه.. فأتاح لشعبه رؤية الحقيقة المفزعة، والتي لم تنفع معها كل محاولات السفارة الإسرائيلية في طوكيو في محاولتها لاجتذاب كتاب اليابان من خلال الدعوات المجانية لزيارة إسرائيل، التي فشلت فشلاً ذريعاً، حين عاد أحد من لبى دعوتها من الصحفيين، مدافعاً عن القضية الفلسطينية، بعدما تأكد من زيف ادعاءات إسرائيل.
معاناة الشعب الفلسطيني لم تكن المعاناة الوحيدة التي عرف بها الشعب الياباني، بل وترجم له معاناة العديد من الكتّاب العرب وما لقيه بعضهم من سجن وتشريد وتغريب، فلقد قرر على طلابه في السنتين الثالثة والرابعة في الجامعة، كتاب (رسائل السجن) لكاتب
لا يكاد يعرفه أحد من بني العرب!.. ذلك هو الكاتب المغربي (عبداللطيف اللعبي)، الذي أودع كتابه المذكور أدق وأصدق ما ينتاب سجين مقهور، من مشاعر إنسانية وأفكار، ولم ينقذه من سجنه، سوى حملة دولية، لينضم إلى قوافل الأدباء العرب المغتربين في باريس من أمثال معلوف وأبو دهمان والطاهر بن جلون!.
إلا أن صور المعاناة المختلفة، وما نقله من أنماط للمجتمع المصري للشعب الياباني من خلال ما ترجم لهم من مؤلفات، لم تكن هي كل ما أحرزه من إنجازات، فقد نقل طلابه إلى أجواء الصحراء الساحرة، لا من خلال إعجابه بالشخصية الرئيسية للجزء الأول من خماسية عبدالرحمن منيف الشهيرة (مدن الملح) المتمثلة في (متعب الهذال)، بل ومن خلال تدريسه طلابه، مؤلفات من اعتبره كاتب الصحراء الأول، الليبي (إبراهيم الكوني) الذي تجاوز ما ألف عن قبائل الطوارق البدوية 35 كتاباً، يزخر بالصفحات الرائعة عن عالم الصحراء، بل كا فيها من كثبان ورمال، ونخل وأثل ونوق وجمال، وكمأ وضبان وغزلان، وأساطير عن الأنس والجن والسعلاة!.
ولكن اهتمام (نوتوهارا) بالثقافة العربية لم ينحصر ضمن الشق الأدبي منها، بل واهتم أيضاً بالشق الاجتماعي بكل تنوعاته الريفية والحضرية والصحراوية، ومن كل جوانبه التراثية منها، سواء ما يتعلق بالمعتقدات والتقاليد، أو الحالية فيما يتعلق بالممارسة والعادات وأزدواجية المعايير السلوكية، بل وقارنها بما يقابلها في المجتمع الياباني، بصور ما أشبه ما تكون ببحث ينتمي إلى علم الاجتماع المقارن!.
***
يتركز اهتمام (نوتوهارا) في دراسته للشق الاجتماعي من الثقافة العربية حول محورين، أولهما هو ما يفصل المجتمع الياباني عن المجتمع العربي من هوة واسعة!.. وثانيهما هو تشخيص ما يعتري المجتمع العربي من أمراض مزمنة، وما يمتاز به من تقاليد عريقة وشيم.. مما يجعله خير مرجع للمهتمين بالحوار ما بين الثقافات، لا فيما يتعلق بالتفاهم والتسامح ما بين الشعوب رغم ما يفصلها من فجوات ثقافية فحسب، وإنما لتبيان كيف ينظر الآخرون إلى مجتمعنا العربي بكل ما فيه من مساوئ ومحاسن.
يبدأ (نوتوهارا) رسم ملامح الهوة السحيقة بالإشارة لما يفصل المجتمع الياباني عن نظيره العربي على صعيد المعتقدات، ففيما ديانة (الشنتو) الوضعية، لا تشير إلى الإيمان بإله واحد فرد صمد، ولا تعتقد أن كل من في الكون وما على الأرض إنما خلقه الله لخدمة الإنسان، بل ما هو سوى كائن ضمن وحدة الوجود، فلا حساب ولا عقاب ولا خلود في نعيم أو جحيم، فإن الإسلام كدين سماوي موحى من ربِّ العباد، وكخاتم ومتمم لأديان سماوية سبقته بآلاف السنين متجذر في النفوس المؤمنة بإله واحد.. ويشكل المحور الأساس في ثقافة وسلوك المجتمع العربي المسلم، إيمان أدهشه وهو يرى بدوياً يؤدي الصلوات الخمس بخشية وخشوع، رغم انقطاع المطر بسنوات، وما حاق به جراء انقطاعه من جدب وفاقة! وخشية من غضب الله، لجأ إليها هو ذاته، كلما خشي من غش بعض ضعاف النفوس، فما أن يذكِّر من يحاول
غشه بغضب الله عليه، حتى يتراجع خوفاً من عقابه، إيمان عميق متين، كان مثار دهشته وإعجابه!.
أما على الصعيد السياسي، فإن تلك الفجوة لا تتمثل في غياب حريات الرأي، والتعبير، والانتخاب عن معظم المجتمعات العربية، وحتى المنتمية منها لأنظمة جمهورية، مقارنة بحضورها وترسخها في المجتمع الياباني، بل هو يعجب من طول عمر الحكومات حتى في الأنظمة الجمهورية، مقارنة بأعمارها في اليابان، التي لا تتجاوز السنتين في معدلها!.. بل ويحمل تلك الظاهرة ما تعاني منه المجتمعات العربية من مشاعر الإحباط والانفصام، واستشراء التزلف والنفاق، وما نجم عنه من ازدواجية في السلوك والضوابط الأخلاقية وخاصة في المجتمعات الحضرية والريفية!.. ازدواجية يرى أن نجيب محفوظ عبر عنها بصدق من خلال شخصية أحمد عبدالجواد في ثلاثيته، فهو قد لمسها وعايشها على المستوى الفردي، حين رأى الاختلاف الشاسع في سلوكية أستاذ جامعي عربي انتدب للعمل في اليابان وما شاب نهج حياته من مجون، وانفلات أخلاقي، وما بين سلوكه حينما زاره في منزله في وطنه، في انضباطه ووقاره! وما رأه من قيام أحد الشعراء في مهرجانات مختلفة بتوبيخ وإلقاء قصائد المديح والثناء لمختلف الرؤساء على اختلافات أنظمتهم واتجاهاتهم السياسية!! وما شاهده من نفاق إبان معايشته للفلاحين في الأرياف فيما يظهرونه للسلطة والشرطة من احترام وإقامة للولائم، فيما هم يكرهونهم في الخفاء!.. بل هو يعزو ما يشاهده من تحطيم للممتلكات العامة سواء من قلع لمقاعد الحدائق، وخلع لسلال المهملات والقمائم، وتكسير لمصابيح الشوارع، كنوع من التنفيس، مما تعانيه المجتمعات العربية التي عايشها، من أمراض المنع والكبت والقمع المزمنة، بل هو يرثي لحال بعض الشعوب في الشوارع وهم يتلفتون في خوف، وكأنما هم ملاحقون!.. ولكنه على الجانب الآخر، يعجب أشد الإعجاب بما تمتع الشعوب العربية عامة من كرام الضيافة، مقارنة بالمجتمع الياباني المنطوي على نفسه، وعزوفه عن استضافة الأجانب، فالكرم المتأصل والذي يصفه بالنبل والشهامة، لا يقتصر على مجتمعات المدن بكل شرائحها الغنية منها، والفقيرة بل ويتجلى بأبهى صوره في المجتمعات الصحراوية، التي تتميز مثلما عاش وجرب بانفرادها من بين كل المجتمعات في أنها الوحيدة التي لا يختار فيها المضيف ضيوفه، فالبدوي في باديته يستضيف ويرحب بكل طارق وزائر.
ويصل إعجابه أقصاه، فيما يتمتع به البدوي من خفر وحياء، من خلال من شاهده، حينما قدم البدوي فنجان القهوة لزوجته التي رافقته في إحدى زياراته للبلدية، فلاحظ أنه يقدم الفنجان وهو يدير رأسه وناظريه عنها، فما كان منه إلا أن تذكر بيتاً لعنترة بن شداد العبسي يقول:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved