الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 23rd August,2004 العدد : 73

الأثنين 7 ,رجب 1425

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي
النبع الحزين
أحمد بن سليمان اللهيب
61 صفحة من القطع الصغير

النبع مصدر ماء.. والماء مصدر نماء.. لماذا الحزن وهو يجسد حياة الكائن الحي.. الأرض ومن على الأرض.. لا بد أن الشاعر اللهيب لهب ظمأ داخلي يعتصر فمه.. ويجفف ريقه.. ويدفعه إلى ان يصرخ إلى ان النبع شح ماؤه.. أو جف ماؤه.. أو أن الذين كان يمدهم رحلوا عنه وتركوه بمائه وحيداً حزيناً تذروه الرياح دون ظامئ..
وإذا كان نبع الماء يتملكه الحزن.. فإن نبع الحياة.. ونبع الخير.. ونبع الفضيلة.. ونبع الحب. ونبع السلام الأكثر مدعاة للحزن لأن ماء النبع لا يسقي له غليلاً.. ولا يشفي له عليلاً..
(كل شيء كان حلماً).. بهذا العنوان وتحت هذا العنوان جاء خطابه الشعري يحمل بعضاً من خلجات مشاعره وتصوراته للجفاف الذي يشتكي منه:
ليت شعري
هل يفيد اليوم جرحي.. وعذابي
وابتهالات بقلبي
وصبابات تناجيه بليل
وشئون لا تكف اليوم وكفا
ما لقلبي..؟!
ما بقلبي..؟
هذا الوجع المسكون بقلبه من أين جاء.. وإلى أين يتعامل معه.. أوجع مرض عارض.؟ أوجع مرض مزمن.؟ أوجع زمن غليظ الطباع يعتصر الضلوع.. ويعتصر بقايا ما في الجسد من حركة؟
واجماً أمسي يتيماً
يرقب النجم. ويبكي
هاجه شيء غريب قد تراءى
بين عينيه خرافي عظيم
يستحيل الأمن خوفا
يطفئ الأنوار في خدي
مضيئاً فوق خدي
شمعة فيها معاني أغنيات
ذات انغام لصداح معنى
ذات الفاظ.. ولكن دون معنى
خرافي مزق ستار أمنه! اطفأ انوار خده.. وأضاء بدلاً عنها شمعة تقول الأغنيات لصداح معنى ألفاظها دون معنى..
حتى هذه اللحظة خانني الفهم من استيعاب الصورة التجريدية الضاربة في متاهات الخيال المحال.. لعلها حلم محموم مزعج أطبق عليه في سباته أقض مضجعه وأفزعه وأيقظه.. وراح يبحث له عن مفسر أحلام يقرب إليه فراقه الحلم إن كان يدري.
مشكلة حلمه ومأساة حلمه ان رأى القمر مقعداًًً بلا حراك له بين النجوم بعد ان أعيته أحداث السنين.. ليس هذا فحسب بل إن قمره المسكين المثقل بألوان الهموم كبا راسماً قوساً على تاج السماء. ناثراً دراً كأنداء الزهور.
لحسن شاعرنا انه استفاق من حلمه دون ان تلجئه الحاجة إلى مفسر أحلام لأنها أضغاث لا يقوى على تفسيرها ابن سيرين ولا حتى علماء الفلك.. والنفس.
(عيناك والحب) قصيدة من نتاج الصحوة لا دخل لها في الأحلام لأنها لا تحتاج إلى من يفك طلاسمها وألغازها:
عيناك والحب والأحلام. والقلم
قد هيجت خاطري اذ خاطري شيم
وأوقدت حرقا ما تنطفئ أبدا
تنساق في ألم يستافه ألم
كلمة (حرقا) يحسن استبدالها بكلمة (شعلة أو جمرة) كي تتفق مع ما تنطفئ المؤمثة..
عينا حبيبة كانت سخية بمعطياتها إلى درجة انها منحته الدرر علقتها على وجنته كي تكشف له الطريق. وسامرته بأنغام عز. وداعبت لاعجه، وأشياء أخرى تحتاج إلى تأمل..
عيناك ساحرتا ليل قد ارتشفت
من خاطري العذب ما قد كنت احتلم
يريد شاعرنا ان يقول ما كنت احلم به واتمناه.. احتلم يا صديقي لا علاقة لها بالحلم وإنما بشيء آخر نعرفه جميعا لا داعي لذكره..
يبدو ان شاعرنا في النهاية ضاق بعيشه إلى درجة استسلامه للواقع المر:
مازلت أبحث عن دنيا أعيش بها
حتى تلازم عندي الحزن والندم
أرض الله واسعة يا صديقي.. دع لقمرك ان يمد خيوطه وخطوطه وستجد انك القادر على لجم الضياع.. ودحر التيه.. المهم ألا تكدس المجاديف..
(يا قلب) مقطوعة أخرى.. تحمل نفس الشكوى..
ماذا دهاك أيا قلبي ألم تك في
دنياك ترسم من أحلامك الصورا
تفاوحت بين عينيك المنى عبقا
وألبست خدك الآمال فاتزرا
تفاوحت غير مناسبة.. أفضل منها (تضمخت)..
قد كنتُ ترقب في ليل الدجى حلما
يأتيك يحمل في كفيه ما اندثرا
ليل الدجى تحملان معنى واحداً.. أفضل منه ان تقول في ليل الورى..
مع قلبه تطول الشكوى ويطول معها الخطاب
يا ويح قلبي لا يُقض له وطر
الا وجدد له في أيامه وطرا
القصيدة في سردها اللفظي تفتقر الى الكثير من المراجعة والتصحيح.. وهذا ما لا تسمح به مساحة الحلقة مع الأسف..
ومن القلب التائه بين الحيرة والحسرة يأخذنا شاعرنا اللهيب إلى فلسفة الحياة فهل أعطاها حقها في طرحه؟
في ظل فلسفة الحياة وما بها
من لوعة السراء والضراء
مازلت أبحث عن ضياء مدامعي
حتى رجعت وما وجدت ضيائي
المدامع يا عزيزي تعطي ماءً ساخناً لا ضوءاً.. الضوء مصدره الخواطر مثلا أو المشاعل أيهما تختار..
في ظل فلسفته التي تحوجها الفلسفة سامر بدره الحزين. وشمسه الملفحة ببردتها الصفراء.. في ظلها سيناطح الريح الهوجاء. في ظلها سيتحدى الظلام والبحر والوهم.. دون وهم يا صديقي تلمست الفلسفة بين سطورك، كانت غائبة، وغائبة معها مفردات الشعر وجماليات الصورة، والكثير من المباشرة التي تربك المضمون وتعريه من خصائصه.
(إباء عاشق) عنوان يحمل الشموخ والكبرياء في واحة العشق.. فهل ربحه شاعرنا العاشق أمام معشوقته؟
قطع الحزن نشيدي فاقطعي
صلتي لا تذكر لي مدمعي
أسفت عيناي إذ قد نزفت
من دمائي ما هدمنا أضلعي
الشطر الرابع يحتاج إلى إعادة صياغة وبناء.. أولا العيون لا تنزف دماءً بل دموعاً.. ثم ما هدمنا عبارة محيرة وغير مؤدية..
يستحسن ان تأتي على النحو التالي:
من دموعي هُدَّ منها أضلعي)
شاعرنا اثبت تمرده على معشوقته.. لم يخر بين يديها مستجدياً متوسلاً كما هي حال الكثرة المكاثرة من شعراء الغزل.. وإنما قابل الهجر بالحسم والحزم دون تردد:
قد محوت الحب من قلبي فما
شفه حب كذوب فاقنعي
وطمست الوهم من عمري الذي
قد مضى مني فردي وامنعي
هكذا قلبي بكفي زنده
رمت اطفاءك مهما تصنعي
جميل هذا الكبرياء والانتصار لقلبه أمام عاشقة جامدة للحب.. وجميل أيضا لو انتبه شاعرنا ان الزند لا يطفئ دائما وإنما الدفق.. جميل ان يقول:
(هكذا قلبي يكفي دفقه)
قصائد قصيرة وكثيرة يحتويها الديوان سوف أمر على بعضها مرور الكرام: (ترانيم على زخات المطر). (ليلة مجنونة) (انشودة الألم). (فتاة في حلم). (حفنة رمل). (الوقوف على متاهات اليأس). (القلب والشعر). (همسات قلبين). (ترنيمات على وجه عراقي). (صهير الذكريات). (غريب! غدا الرحيل). (قصائد قصيرة الى عينيك) و(بين القبور) كي اتوقف مع شاعرنا في ابجدياته اليومية لمليون مسكين.
مسكين هذا التاجر في كل مساء
يبحث عن لقمة عيش كالولهان
يبحث في احذية الفقراء
عن لقمة عيش وحساء
يبحث داخل جبته الصوفية عن قطرة ماء
ويظل يجوب الأرصفة الظلماء
أذ يأوي في غرفته الخرساء
في ليلته السوداء
والنهر الأصفر سلسال بين يديه
ولهيب الجوع يمزق أوردة جوفاء
مسكين هذا التاجر في آخر ليل أليل
يأوي في غرفته الصماء..
عرفناه.. انه من يملك نزوة حرم نفسه منها لشحه وبخله.. وعرفنا انه يسكن غرفته الخرساء أو الصماء كما وصفها.. الا اننا خرجنا من مولده دون حُمّص كما يقول المصريون.. لم نر أثراً لمليون مسكين كانت الأبجدية اليومية من أجلهم.. فقد لمسنا آثار أحذيتهم وأزملتهم.. وربما أزمتهم.. لقد تواروا خلف الظل ليطل علينا الغني بماله الغبي ببخله وشحه.. فهل هذا ما أراد ان يقنعنا به؟ يمكن هذا لو غيَّر العنوان على النحو التالي: (أبجديات يومية لمحروم)..
رسالة شاعرنا الى بيته القديم لفتة وفاء لأول منزل.. والحنين دائماً يكون لأول منزل حيث الصبا والصبوة، وذكريات الطفولة:
وداعاً أيها الطلل
فإني اليوم مرتحل
وداعاً والهوى ألم
وفي الأحشاء يشتعل
(الجوى) هنا أقرب إلى المعنى من الهوى..
أتيت إليك في عجل
وهأنا راحل عجل
الأنسب للمقام ان تحل كلمة (مَهَل) محل عجل..
وبين ربوعك الذكرى
تلوح كأنها شعل
فكم رسُمت على الجدران
من أفراحنا قُبَل
وكم سكبت دموعَ الحب
فوق ثراك لي معقل
وكم غنى على الاطلال
فوق ذراك لي أمل
وكم ناحت حمامات
على الشباك تحتفل
هي الدنيا فذا آت
وهذا اليوم منتقل
هكذا يكون الشعر يا صديقي.. سلاسة في الطرح.. سلامة في أدوات التعبير.. جمال في الوصف.. صدق في المضمون.. أينك من هذا في معظم قصائد ديوانك؟
ومن طلله القديم الى صرخة طفله الكبير..
من ضمير الليل هذا الحزن يحتاج شعوري
لهفة تغتال أيامي وتمتاح سروري
واجماً أرقب فيها فرحة العمر الضرير
تتهادى كانبثاق النور من بين القبور
شارداً في مقلة البدر أغني للعصور
كل هذا من فم الطفل الكبير.. أي الحدث وهو يتحدث عن الرؤى الحمر وآهات الشعور، والنوم فوق الصخور. بل إنه تملك عصا سحرية حولت المستحيل الى حالة لا استحالة فيها.. اعتصرت من ظمأ الآلام كأسا دهاقا من ماء نمير عذب
يرتوي من ظمأ الآلام من ماء نمير..
ربما لأنه أدمن مرارة الأشياء لم يعد يأبه بطعم ومذاق ما يشرب.. هل يكون مثل هذا الافتراض وارداً؟!!
وعن بغداد.. عاصمة الرشيد.. اجتزئ من قصيدته بعض الأبيات المعبرة:
بغداد أنت أسيرة الأمس
وطريدة في الحاضر النحس
عيناك تلتبهان أغنية
أشدو بها في مهيع الشمس
فيك الخواطر ما تزال هوى
تهفو إليك بحسرة النفس
وتحن نحوك فهي واجمة
ترنو إليك بلوعة الحس
شاعرنا اللهيب بشعره الجميل أعاد إلينا أنفاسنا.. أعاد إلينا البسمة المشتاقة لنبض المشاعر الحية.. هذا ما طال انتظاره على أحر من الجمر.. وهذا ما عمقه في أذهاننا كمتلقين قلقين ان تأتي النهاية كالبداية متواضعة..
من ناهديك عروبتي ثملت
وترعرعت بأكفك الملس
قد ضيعتك حكاية عبثت
فيك الغداة بمدمع بخس
شربت دماك وأنت ظامئة
ما كان وردك الا في خمس
وتراثك المشدوه يسبح في
فكري ويمضي حاسر الرأس
الى ان يقول بصوت غاضب في وجه الغاصب:
ها أنت يا بغداد مطحنة
للموت تحت مظلة الرجس
أنا لحن أحشاء معذبة
مقطوعة الأوتار والجرس
يا ويح أغنيتي التي صدحت
اني أراك كأختك (القدس)
كلنا يا صديقي نجتر المأساة.. ونطعم الألم.. سقوط بغداد تحت أي شعار هو سقوط حلم عربي بيد التتار الجدد.. إنه بداية لغزو استعماري اقتصادي، ثقافي، واستراتيجي.. بغداد مفتاح يهدد كل الأبواب دون خلع.. الا ان شعب العراق العظيم عودنا ألا يسقط.. وألا يساوم.. والا يسالم الغزاة.. والذين يأتمرون ويتآمرون.
وبعد: عذراً لما أشرت إليه من ضعف في بعض معطياتك الشعرية.. أريد لها أن تقوى بقوة قائلها.. وأن تبقى رصيداً جيداً له.. وهذا ما آمله.. ومن سار على الدرب وصل.


الرياض: ص.ب 231185 الرمز: 11321 الفاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved