الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 24th July,2006 العدد : 163

الأثنين 28 ,جمادى الثانية 1427

التقويض الفرويدي (8)
سعد البازعي

تقويض الميتافيزيقا:
في المرحلة الأخيرة من حياة فرويد تبرز ثلاثة أعمال رئيسة توجه فيها إلى الثقافة بشكل عام مؤرخاً وناقداً محللاً. تلك الأعمال ابتدأت ب (مستقبل وهم) 1927، وتضمنت (قلق في الحضارة) 1930، وانتهت ب(موسى والتوحيد) 1939. هذه الكتب الثلاثة مهد لها بكتاب رئيس سابق هو (الطوطم والتابو) 13-1912الذي حمل الأطروحة الأساسية التي قام عليها الكثير مما تضمنته تلك الكتب. أما ملخص تلك الأطروحة فهو أن الحضارة الإنسانية تقوم على قدرة الإنسان على مقاومة ثلاثة نوازع غرستها الطبيعة فيه هي: النزوع إلى القتل وزنا المحارم وأكل لحم الإنسان. هذه المقاومة، التي لم يكن الإنسان البدائي بحاجة إليها، تولد لدى الإنسان قلقاً وتبرماً لأنها تحتاج إلى قوة الكبح الذي تقوم القلة أو النخبة في المجتمعات البشرية بفرضه على عامة الناس. غير أن التاريخ سجل حافل بالاستسلام لدواعي النزوع البدائي أو البربري إلى الاعتداء على الآخرين بعد أن استطاع، كما يشير فرويد، إلى السيطرة على النزعتين الأخريين، زنا المحارم وأكل لحوم البشر.
ما يهمنا هنا هو ما يقوله فرويد بشأن النتائج التي تؤدي إليها السيطرة على تلك النوازع. فقد استطاعت المجتمعات البشرية أن تستبطن مقاومة تلك النوازع لتوجد من ذلك (الأنا العليا)، التي تمثل الرقابة الاجتماعية - الثقافية المفروضة على الأنا الفردية. وتعد قوة الأنا العليا مقياساً لدرجة التحضر التي يصل إليها مجتمع ما. لكن تعاظم قوة الأنا العليا غالباً ما يؤدي إلى نوع من الاحتباس أو الضيق لدى الفرد مما يدفعه إلى البحث عن التنفيس، أو إلى نوع من السلوك العنيف الذي تمارسه الفئة المسيطرة أو الغالبة في المجتمع على بعض أفراده أو طبقاته أو فئاته الأخرى، أي أن هؤلاء الأفراد أو الفئات المستضعفين يتحملون ما من شأنه التنفيس عن ممارسي العنف من الأقوياء. في كتاب (مستقبل وهم) يتحدث فرويد عن هذا النوع من العنف الاجتماعي الداخلي الذي يولد عداءً لدى من يقع عليهم، كما في التفاوت الاقتصادي أو الهيمنة الاجتماعية التي تمارسها بعض فئات المجتمع القوية اقتصادياً أو دينياً أو ثقافياً على الآخرين، وهم في العادة الفقراء أو الخارجين على الدين أو غيرهم من الجماعات المهمشة أو المستغلة.
في كتاب فرويد التالي (قلق في الحضارة) يصل فرويد إلى نتائج تتصل جدلياً مع ما سبق أن طرحه في (مستقبل وهم) من حيث هي تفصح عن هوية بعض الفئات التي يقع عليها التنفيس العدواني. فهو يرى أن نزعة الاعتداء لدى الإنسان لا تهدأ أو تغيب بسهولة، وإنما تظل تلح وتطلب التنفيس عنها من خلال الممارسة. ومن هنا تأتي ضرورة البحث باستمرار عن ضحايا يمكن التنفيس عن نزعة الاعتداء تلك عليهم. وكما هو متوقع فإن اليهود يدخلون الصورة من هذا الباب المعروف في التاريخ الأوروبي، باب الاضطهاد الذي اعتادوه والذي يؤكده فرويد بوصفه مثالاً بارزاً يعرفه الجميع. ففي حين تدخل الشعوب الأوروبية الكبرى، شأن الجماعات الإثنية والثقافية المتجانسة، في منازعات (خفيفة) مع بعضها البعض، منازعات يقول فرويد إنها تساعد تلك الشعوب أو الجماعات على تقوية روابطها بالتخفيف من حدة الضغوط، فإن اليهود يتلقون الجانب الأعنف من التنفيس بوصفهم أقلية مستضعفة:
من هذه الناحية قدَّم الشعب اليهودي، المشتت في كل مكان، خدمات هي
غاية في الفائدة للحضارات والبلاد التي استضافته؛ غير أنه لسؤ الحظ
لم تكف كل المذابح التي تعرض لها اليهود في العصور الوسطى لجعل
تلك الفترة أكثر سلاماً وأمناً لإخوتهم المسيحيين.
الأعمال الكاملة (الترجمة الإنجليزية) ج21، ص 114
* هذه المماهاة بين الفئات المستضعفة واليهود، أو تحديد هوية الضحايا اليهود الذين ظلت أوروبا تختارهم في فترات سابقة لإحداث حالة من التوازن النفسي الحضاري، هي نوع من التوحد بين الفرد والفئة التي ينتمي إليها الذي يكتسب أهمية ودلالة خاصة في الظروف التي كان فرويد يكتب في سياقها. فبالإضافة إلى معاداة اليهود، التي يطلق عليها اليهود معاداة السامية، والتي لم تتخلَ عنها أوروبا يوماً من حيث هي شعور منتشر مستبطن حيناً ومعلن أحياناً، كانت هناك ظروف تاريخية تتجمع غيوماً داكنة ومنذرة في الأفق الأوروبي منذ أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين. فقد شهد العام 1933 صعود النازية إلى سدة الحكم الألماني وكان من الطبيعي مع التهديدات الهتلرية أن ينتشر الخوف بين اليهود الأوروبيين وأن تستعاد مع الخوف ذكريات (الفئة المستضعفة) على مدى التاريخ الأوروبي.
تلك المخاوف جاء كتاب فرويد الأخير (موسى والتوحيد) ليعبر عنها على نحو لا يخلو من مفارقة. فالكتاب الذي يعيد قراءة التاريخ اليهودي القديم ويسعى لترتيب أوراقه على نحو جذري من خلال خطاب نقدي تقويضي شديد الحدة في علمانيته، كان أيضاً معبراً عن قلق تجاه مصير تلك الجماعات اليهودية نفسها في المجتمعات الأوروبية بعد أن شرعت أوروبا في إذكاء عداواتها القديمة. وبالطبع فإن فرويد لم ينظر للمسألة من هذه الزاوية الفؤوية فحسب، وإنما نظر إليها من خلاله نقده الحضاري العام ليرى في ذلك تحقيقاً لتشاؤمه من بشرية لا تكاد تخطو خطوة واحدة في مضمار التحضر حتى تعقبها خطوتان في مضمار البربرية. بيد أن الشاغل الفؤوي ظل، على الرغم من النقد الحضاري الشمولي، حاضراً يربط هذا الكتاب بذاك ويبقي شعلة القلق الذاتي والجماعي متقدة تؤثر في مسارات الفكر والتحليل.
الشاغلان المشار إليهما، الشاغل الحضاري العام والشاغل الفؤوي الخاص، يمثلان انعكاساً لازدواجية البعدين اللذين سبقت الإشارة إليهما: البعد التنويري العقلاني الذي يجعل فرويد قريباً من الحضارة الأوروبية وواحداً من المشتغلين ضمن سياقاتها، والبعد الفؤوي الخاص النابع من تحيزات المعرفة والنقد الثقافي والاجتماعي الذي يجعل فرويد لصيقاً بهموم اليهود متأثراً في عمله بما يؤثر فيهم. في (موسى والتوحيد) يبرز فرويد المفكر العلماني الذي يسعى لتقويض البنية الميتافيزيقية للدين ككل من خلال النموذج اليهودي وذلك بوضع اليهودية واليهود في سياق تاريخي عقلاني يلغي دعاوى الوحي ويجعل ذلك الدين مجرد امتداد للفكر الديني كما تطور في مصر القديمة. كما أنه، في الوقت نفسه، يلغي دعاوى التميز والاختيار التي ظل اليهود يرفعونها طوال مسيرتهم عبر الحضارات وحيثما حلوا. وفي هذا ليس ما يقوله فرويد سوى امتداد لما سبق أن أكده في أعمال أخرى كثيرة لعل أبرزها كتابه (مستقبل وهم) حيث يؤكد أن (الأفكار الدينية نبعت، شأن الإنجازات الإنسانية الأخرى، من الحاجة نفسها: من ضرورة الدفاع عن الذات ضد قوة الطبيعة الكاسحة) الأعمال الكاملة، ج21، ص21. وهي من هذه الناحية مجرد أوهام قد تتجاوزها الإنسانية بالاتكاء على العلم الحديث.
في قراءة لكتاب فرويد (موسى والتوحيد)، ضمن محاضرة حول موقف فرويد من الثقافات غير الأوروبية، يبرز إدوارد سعيد هذا البعد التنويري العام بالتركيز على مفهوم فرويد للهوية اليهودية. ففي التوظيف الفرويدي تبدو تلك الهوية، ومن خلال ربط موسى بالمصريين - أي من خلال أطروحة أن النبي موسى مصري أتى بالتوحيد إلى اليهود من مصر ليقودهم من خلال اعتماده أساساً لدين جديد -، تبدو فتحاً للهوية اليهودية على الهويات الأخرى وإلغاء من ثم للعزلة التي جاءت الصهيونية وإسرائيل من بعد لتغلقها. يقول فرويد في تلخيص لأطروحة كتابه وكأنه يؤكد قراءة سعيد: إن (غرضي الوحيد منه أن أدخل وجه موسى مصري في إطار التاريخ اليهودي). غير أن هذه القراءة، على الرغم مما يسندها في كتاب فرويد، بدت وكأنها تقلل من تأثير انتماء فرويد اليهودي، حسب ما رأت الباحثة البريطانية جاكلين روز في تعليقها على محاضرة سعيد حيث ذكرت أن فرويد أكثر التصاقاً بهويته اليهودية مما يذهب إليه سعيد. تقول روز:
ما أقترحه هو، بمعنى ما، أن نقطع شوطاً أبعد في الطريق الذي تشقه قراءة سعيد: أن نخفف من نظرتنا إلى فرويد بوصفه لم يكن سوى ذلك الطبيب المشخص لمعضلة الهوية التي يصفها، وبصورة أدق داخل تلك الهوية. وبمزيد من البساطة، فإن ما أقترحه هو أن ثبات الهوية - بالنسبة لفرويد، ولأي منا - هو شيء يصعب الفرار منه كثيراً، أكثر مما يشير سعيد انطلاقاً من دوافع تثير الإعجاب.
تشير روز بعد ذلك إلى كون موسى والتوحيد (واحداً من أعنف نصوص فرويد) من حيث إنه (يمكن، في النهاية، أن يقرأ... بوصفه قصة اغتيال سياسي)، حيث يعيد فرويد ما سبق أن أشار إليه في كتابه الطوطم والتابو وهو أن القتل يؤدي إلى الترابط الاجتماعي.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved