الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 24th July,2006 العدد : 163

الأثنين 28 ,جمادى الثانية 1427

نجيب محفوظ.. الترميم من أجل التحطيم
العَالَم الروائي لنجيب محفوظ، يبدو عَالَماً بسيطاً في شكله وأبعاده فهو يُغري المتلقي بالاقتراب منه، وقضاء المتعة على شواطئ حروفه وكلماته، والاستئناس بحاراته وأزقته، وأصوات الباعة، ومناظر أصحاب العاهات، وما يجري في المقهى من لعب الورق، وتدخين النرجيلة، وصوت المعلم والقهوجي.. وما ينسجه نجيب محفوظ من عوالم رومانسية توشّيها عبارات العشق والغرام، ومغامرة الفتيات في التمرد على العادات والتقاليد وغير ذلك، لكن هذا العالم على بساطته وسطحيته الظاهرة يحمل في جُوّانيته عوالم تضطرم، وأبعاداً تتعب العقل والفكر، وتمرداتٍ تُحيِّر عقل الناسك، وأسئلة تطرح نفسها بقوة، وتدق باب العقل بشدة تطلب الأجوبة المختبئة خلف الجدران.. فعالم (نجيب محفوظ الروائي) كالصوفي الذي يلبس البسيط من الثياب، وبداخله عوالم ميتافيزيقية تحار عندها الألباب.. و(نجيب محفوظ) درس الفلسفة، وكتب المقالات الفلسفية في بداية مشواره الثقافي، لكنه رأى المقالات لا تفي بالغرض المطلوب، فلجأ إلى صَبِّ الأسئلة الفلسفية في قالب الرواية، كي يقترب من المتلقي العربي، لأن عنده حساسية مفرطة تجاه الفلسفة وأصحابها، (فنجيب محفوظ) هرَّب هذه (المنبهات) لا (المخدرات)، من موظف الجمارك في الذهنية العربية، وقد نجح.
ولعل أبرز مسألة فلسفية ركَّز عليها (نجيب محفوظ).. هي مسألة (القدر) فإنها هي المحور الرئيس الذي تدور عليه أغلب رواياته، فالإنسان يحاول تغيير قدره، لكن القدر يغلبه في النهاية ويحطمه.
والمتتبع لكثير من روايات (محفوظ) يجده يعمد إلى الإنسان المحطّم فيرممه ترميماً جيداً ثم يدخله جنة السعادة، لكن ما أن يفرح هذا الإنسان بهذه النقلة في حياته حتى يأتيه ما يحطِّمه تحطيماً أشد وأنكى من التحطيم السابق، ولو أخذنا رواية (زقاق المدق) نموذجاً لذلك، لوجدنا الحال كما وصفت، (فحميدة) فتاة برِمت من الزقاق العفن، وضاقت بأهله، لذا فهي تريد أن تتخلص من هذا القدر المأزوم، و(عباس الحلو) كذلك، يريد الزواج من (حميدة) والخروج من هذا الزقاق، لذا بعدما خطبها، ذهب يعمل مع الإنجليز رجاء أن يغيّر قدره وحاله.. وبالفعل غيَّر كلٌ منهما قدره وحاله، وشعر بالسعادة، فحميدة رضيت بعالم (فرج إبراهيم) الذي وفَّر لها الأضواء والأموال، وعباس قنع بالحالة الجيدة مع الإنجليز واستطاع أن يشتري لخطيبته التي هربت من الزقاق مع (فرج إبراهيم) ذهباً كي يكون هدية لها، لكن المأساة لا تقف عند هذا الحد.. إنما تتجاوزه، ليرى عباس الحلو، (حميدة) وهي في أحضان الإنجليز فيضربها بزجاجة الشراب ويثور الدم في رأسها.. فيضربه الإنجليز حتى الموت.. هذه هي قمة المأساة يوم أن يُقتل المحبوب على يد حبيبه، أو بسبب حبيبه، فحميدة قتلت عباس الحلو يوم أن عرضته للانتقام من (فرج إبراهيم) ويوم أن رآها في أحضان الجنود الإنجليز.. وعباس قتل حميدة يوم أن ضربها بالزجاجة.. هذه المأساة الأشقى والأشد، وهي الضربة القاضية التي يعمد إليها نجيب محفوظ - متمثِّلاً في القدر - للتخلُّص من أبطال رواياته، فهو يغرقهم بالزوارق التي أرادوا النجاة بها.. فحميدة رأت في (فرج إبراهيم) زورق نجاة يخلصها من أمواج (الزقاق) المتلاطمة لكنها غرقت به، وماتت على يده.. وهكذا يفعل نجيب محفوظ بأبطاله.. فهو يذكِّرنا بالمآسي الإغريقية التي تبدأ بمأساة ثم تنفرج لتأتي مأساة أعظم منها وأشد، كما في أسطورة (أوديب) مثلاً.. فقد بدأت مأساته، بأن رماه أبوه الملك، خارج القصر لأنه أُخبر من قِبل كاهن (طيبة) أنه سيموت على يد ابنٍ له يقتله.
وهذه مأساة عاناها أوديب.. لكن سرعان ما انفرجت يوم أن أصبح ملكاً على عرش (طيبة)، لكن هذه السعادة لم تتم فقد اكتشف أن العجوز الذي قتله يوم أن اعترض له في الطريق ما هو إلا أبوه الملك.. وأنه يوم تزوج بزوجة الملك، فإنه قد تزوج أمه وزنى بها.. يا لها من مأساة أعظم من المأساة السابقة.. ويزيد المأساة ألماً نهاية (أوديب) المفجعة، يوم أن يفقأ عينيه ويسير في الصحاري هائماً على وجهه.
إذاً (نجيب محفوظ) يصدم المتلقي العربي الذي تعوَّد على أن تبدأ القصة بالشقاء وتنتهي بالسعادة، ليتحقق المفهوم الإسلامي (الفرج بعد الشدة)، أو (شدة وتزول).. لكن ذلك ما لا يريده نجيب محفوظ، فهو يأتي برؤية فلسفية تقول: ما بعد الشدة إلا أشد منها.. وهذه نظرة فلسفية يونانية متشائمة من الحياة.
والنظرة اليونانية القديمة ترى أن الأفضل للإنسان أن لا يولد في الحياة، وإذا ولد فالأفضل أن يموت صغيراً.. هكذا يكون القدر بطلاً متوارياً في روايات (نجيب محفوظ).. وقُلْ مثل هذا عن نهاية (محجوب) في رواية (القاهرة الجديدة)، وعن بطل (السراب)، وغيرهما من الروايات المحفوظية.


صلاح بن عبد الله بن هندي -السعودية


الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved