غفوتُ على بارق من هجير، بعد أن أجهدني ظمأ أحلامي، وأتعبتني لوعة تجتاحني كالشهب المحرقة. حدقتُ في السماء القريبة، كأني أراها للمرة الأولى، وبدأتُ أتشكل بالغيم متخيلاً قصصاً عديدة، فتارة أكون سحابة غاضبة، ومرة باسمة، وأخرى كفارس شجاع، وهو يحلم بالحبيبة البعيدة. كنت أصدق أحلام الغيم، متشبثاً بسحابة تحملني هنا وهناك، لأوزع ملامح صورتي، على مرابع الكون السحيقة.
هي لحظة أعود إليها لأتنفس عبير أيام مضت. أعود إليها كالهارب من الصقيع ليحتمي بجذوة نار الذاكرة. ما غيرها الذاكرة، تحتلني من الوريد إلى الوريد كلما أرهقتني صورتي المتعبة. أقف أمامها متهالكاً حتى أخمص وجهي الشاحب، وقد أخذته رمادية ظلي، وأخفته في عرين حزنه الصاخب، وطوته كالجريدة الفاشلة المهملة.
أقف أمامها كاليتيم، أسألها هجعة للوجع المترب بالمسافة الخانقة. أسألها خبز أحلامي المتعثرة، وحلوى أيامي المتناثرة، على رصيف هواجسي المتآكلة.
أفتح بوابة للشمس، ونافذة للعصافير، وأقفل المساحات المتبقية لاتساع الجرح.
أعلن هدنة مفتوحة بين المد والجزر، وأستبيح موجة مراهقة تشغل مهجة القلب، وأبدأ الترقب والعد، من فاتحة الأسئلة، إلى رحم العجز الموبوء في الرد.
هي القصيدة، وليس سواها، تلك اللحظة المحمومة وذلك الصخب العارم حتى الغثيان، وحتى حدود الجنون.
كنت أرصد بوح الذاكرة، المنتشرة على سقف حزني كأوراق الخريف، فأدخل في طقس أوهامها كالصحاري المقفرة، أحلم بمزن انهمارها واشتعالها لأعود من جديد، وتهتز أغصان مهجتي المتفحمة.
ما سواها الذاكرة، رغم ثقبها العنيد، تقفل أبواب غربتي، لأنهض كالعنقاء من رماد التعب المتشبث بأجنحتي، وأحلق في سماوات انعتاقي وحريتي.
رغم ثقبها المائل على مرايا انكساراتي، تمثيل عليّ بأثداء البقايا من بوح وجهي القديم، لأعود... وأعود...