Culture Magazine Monday  24/09/2007 G Issue 217
شهادات
الأثنين 12 ,رمضان 1428   العدد  217
 

أحمد الدويحي:
كنت (أشخمط) في بداية الثمانينيات كعرافة رمل لإغراء قطعان السحب المهاجرة بعيداً

 

 

إعداد - عبدالله السمطي

نجحت في كثير من محطات الحياة، وفشلتُ في وجوه أخرى، وكنت على استعداد لرهن بعض أحلامي، والاستئناس بالاسترخاء والليونة والدفء. لكن عرفت في ذات المرحلة، وجوه الخداع والاستقطاب والقسوة والخشونة.

انها أسئلة التكوين الأولى، حول العالم والذات في تجلياتها الفنية والمعرفية، مزيج من حالات الخوف، والاستلاب والعدمية المفرطة، سواتر شائكة ما بين واقع الأسئلة وتشكل الحلم، فيراكم التسلسل الزمني المألوف ككتل باردة، يكفي هول وطأتها لخلخلة يقين، ممتد في داخلي وكتم أنفاسي، ورؤية جزء من سحابة أحلامي، فخرجت من هذا العالم أولى خطواتي الكتابية، حفية بالشكل والتجريب.. هكذا يتحدث الروائي أحمد الدويحي في هذه الشهادة التي يتناول فيها جوانب مهمة من تاريخه الأدبي، وهذا نص الشهادة:

1 - التكوين:

هاجس وربما كان هناك، حلم هلامي صغير، قراءة وجه السماء الخفيضة في رؤوس الجبال، حينما ّتهبُ إنسانها في لحظات صفاء، القدرة لإعادة تشكيل العالم، والقرية بلا شك مهد ذاكرة، حفرت بها ملامح أولى معينة، أزعم أني ذهبت في غواية هذا الحلم في سن مبكرة، وقدري أن أعيش حياة أخرى مختلفة، وتحولات في مكان آخر قبل تشُكل الحلم في صورة كاملة، وشكًل لي ذلك الانقطاع أفق آخر، ومحطة شاسعة أخرى للأسئلة، ألهو بهذه الأسئلة المتراكمة ما بين الحلم والواقع سنوات طويلة، بما فيها من قسوة وجهامة، وسخرية مضنية حد العبث الموجع، وما زالت قطعان سحب عابرة، عصية عن الهطول، تنتظر تلقيحها لتهطل على الصحراء، فتلك الغيوم وتلك الأسئلة وذلك الحلم، صاحبها أيضا نشوء تحولات واسعة على صُعد محلية وعربية، سياسية واجتماعية وثقافية، لا تنفصل عن معاناة الفرد، وحتما نتائج التعبير هي حالات عن مكنونات الفرد وتأزما ته، والهروب والتسامي عن هذا الواقع، لا يكون إلا من خلال خلق وعي إبداعي جديد، القصيدة الحديثة هي عنوان المرحلة، والجنس الإبداعي الطاغي، وحينها كنت (أشخمط) في بداية الثمانينات كعرافة رمل، لأجل إغراء قطعان السحب المهاجرة بعيدا، باحثة عن موطن وأرض صالحة، لتصب خراجها وخصوبتها الآتية لا محالة، فالقصيدة الحديثة الذاهبة في صدام المجتمع، لا تغريني في تلك المرحلة، رحلة للدخول في طقسها وعالمها، فهي لا تتنفس سوى صوت شاعرها، وكان حلمي ما زال بعيدا، القصة القصيرة زاحمت ذائقة الشعر، طغت على الواقع كتجربة سردية كبيرة، تجاوزت أكثر من مائتين صوت سردي، ما زال ذلك الزخم السردي، بحاجة إلى فرز وقراءة رشيدة، واستحضرت دربة أدواتي الفنية، فكتبت جملة نصوص مبعثرة ضائعة، حفلت بخصوصيتها كجنس تعبيري بلا تصنيف، وازداد فزعي وضيقي، توقفت عن الكتابة الفنية لعشر سنوات، لأن هذه الأجناس الأدبية السائدة لا تنصف الواقع، ولا تغوص في خبايا العوالم الروائية، ولقناعتي بأن الرواية هي الفن الشامل، الذي لم يحن بعد أوانه، ويمكن مجتمعيا استيعابه في ساحتنا المحلية وما زال، فالرواية وحدها الجنس الأدبي، الذي يتسلل إلى رواح الأشياء والكائنات، وتطرح الأسئلة الصعبة.

عشت صراعا رهيبا من نوعٍ ما، كان العنوان كافيا لأصل إلى حالة الجنون المميت، ولكسر حالة الازدواجية من قمقم السؤال إلى رحم المعاناة، فرغت كثيرا من أسئلتي في بلاط (صاحبة الجلالة) الصحافة، وهي وفرت لي في معتركها كثيرا من الوجوه المركبة، والقضايا والأفكار والرؤى الساخنة، وأهم من ذلك القرب من عجلة التحولات، ومكنتني بما يفي بحاجتي من الكتب ومساحة للقراءة الحرة، نجحت في كثير من محطات الحياة، وفشلتُ في وجوه أخرى، وكنت على استعداد لرهن بعض أحلامي، والاستئناس بالاسترخاء والليونة والدفء. لكن عرفت في ذات المرحلة، وجوه الخداع والاستقطاب والقسوة والخشونة.

هنا اكتشفت أني أمارس حالة غريبة جدا، وقد أثقلُت حمولة سحب أحلامي في بعدها الفلسفي، فكبرت أسئلتي واتسعت دوائرها، يخرج الكاتب الروائي بلا تواضع من قمقم معاناة تجربة، ما زالت تأخذني إلى حالة التوازن النفسي والإنساني، فالكتابة عندي فوق حالة التنفيس الفني، كفعل وفهم شائع على نطاق واسع.

الأسئلة الصعبة التي يطرحها الروائي على نفسه دائما، تضيء له خطوات هواجسه إلى تشكيل نسيج باستقلالية، يختلف عن المألوف والساكن والراكد، أنها الأسئلة المحرضة والملهمة والشاحنة للذاكرة، والمتخيل السردي فعل موازٍ، ينشأ ليضئ جوانب معتمة في الحياة، وليفسر جوانب أخرى، دالة في الحقيقية إلى مواقف، ورؤى سياسية واجتماعية في عوالم أخرى موازية.

انها أسئلة التكوين الأولى، حول العالم والذات في تجلياتها الفنية والمعرفية، مزيج من حالات الخوف، والاستلاب والعدمية المفرطة، سواتر شائكة ما بين واقع الأسئلة وتشكل الحلم، فيراكم التسلسل الزمني المألوف ككتل باردة، يكفي هول وطأتها لخلخلة يقين، ممتد في داخلي وكتم أنفاسي، ورؤية جزء من سحابة أحلامي، فخرجت من هذا العالم أولى خطواتي الكتابية، حفية بالشكل والتجريب.

2 - عالم الروائي:

المسألة ليست خيارات لواقع، تنظُر إليه وتكتب منه وعنه، فهذا الواقع متعدد ومتغير ومزدوج، مفتوح ومُقفل في ذات الحالة، مجتمع يسمح لك بسرية ممارسة أوسع الحالات خروجا عن الواقع، ويعاقبك لخروج لا يعد في قول، أو سلوك يظن أنه جارح، ويمس ما يدعي هذا المجتمع له من خصوصية، وتكتب الرواية كلما وجدت المناخ المناسب، لنشوء الكتابة الروائية، وخصوصا في المجتمعات المدنية، كما حرصت على قراءة النصوص التي تمثل الأرضية البكر لفعل سردي روائي محلي، ولمن وسموا نتاجهم كل منهم بخصوصيته الفنية وعالمه الروائي، كحرصي على قراءة الآداب السردية العالمية، وتزداد البيئات الروائية الثرية والمتعددة، كلما أوغلت في قراءة هذا الواقع، الروائي الحقيقي يبقى مسكونا، بخلق فضاء حقيقي، يعطي لشخوصه وأبطاله، الحرية والاستقلالية للتعبير والحركة.

فلسطين ( أم ) القضايا والقبلة الأولى والهم والعنوان، لجيل النصف الثاني من القرن الماضي، شهدتُ عقود الزمن المليء بالحروب والانكسارات العربية الطاحنة، وُهزمت روح هذه الأجيال في الداخل على صّعد أوجه كثيرة، فلا هي هزمّت في داخلها، الشعور بخوف من عدو محتمل، ولا انتصرت وواجهت واقعها ببصيرة، مستفيدة من مقدرات معاصرة هائلة، وتراث عظيم يضرب في عمق التاريخ، لأنها أصلا مهزومة من الداخل.

محاولة (البديل)

ضرب في اتجاه هذا الحلم، وجعل لوحة الغلاف الكوفية الفلسطينية، رمزا لمرحلة ممانعة ورحلة في طريق تشخيص طويل، وطبيعي حضور الصوت الفلسطيني في المجموعة ذاتها، وتبعتها رواية (ريحانة) المجسدّة في وجه من نسيجها ذات الهم، دفعني في نهاية الثمانينيات إغراء النشر، فطبعت (البديل) مجموعة قصصية، وصفت بنفس سريالي بما فيه من رمزية، وجاءت حالة الفعل الكتابي في جمل قصيرة، موجهة رامزة مستحضرة حارة مُضمنة، وكتبت رواية ( ريحانة ) في ذات المرحلة وبذات اللغة، أستحضر الوجوه الحميمة الأولى، لتواجه حالات الاستلاب الفظيعة..

اتسعت حالة الدهشة وصورة التحولات، وتوارت مفردات الغربة والشجن القروي، الملمح البارز لنتاج قصصي ساد المرحلة، وأصبح هضم الانكسارات المتوالية، يحتاج إلى معرفة جادة، إذ يخلق الروائي فضاءه وعالمه ويحدد مشروعه، يظل مسكونا بشخوصه، وأزعم أنه في ذات المرحلة، شكلت أفقا كتابيا جديدا، يتجاوز ما يعرف بالعقدة والحبكة التقليدية وما شابهها، وقد فقدت مبكرا رائحة المكان في القرية، وحل السفر لغة محل الأجواء الحميمة، حرضني حيٌنها سكرتير نادي القصة، وآخرون من جماعة السرد، فقدمت (قالت فجرُها)، النص الكتابي الدال لمرحلة فائته، توسُم مرحلة من تجربتي كتابة نصوص قصصية، لتصدر المجموعة الوحيدة لي من مؤسسة ثقافية رسمية هي (نادي القصة)، وما يمكن قوله في هذا السياق، إن الرواية التي نتحدث عنها، ما زال الهجس بها، يعد ضربا من الخيال المحرم، ويصعب تصور ذلك حتى في ذهن كثير من النخب الثقافية، فالرواية التي تجسد حالات الصراع الممتد في كل زمان ومكان، وصراع كوني بين ما هو ساكن وخلاق داخل المجتمع، والكتابة بلا حرية في مجتمع، لا يؤمن بتعدد الأفكار، تصبح ضربا من الإيحاء والترميز، وحالة الاحتفاء بالمنتج الروائي العربي الضئيل عنا، تجسد صورة لفقرنا والحاجة الملحة لهذا الفن، وتصور رؤية ما عن مشروع روائي، وكأن الرواية انتدبت لخطابات أخرى، ماثلة في أذهان كثيرة، كل هذا في مرحلة التصور، فكيف بالطباعة والنشر والتصحيح والتوزيع، والقراءة والمتابعة والحقوق وتجاوز الهفوات من العواقب؟

كتبت في بداية التسعينات بهدوء تجربة جديدة، يبدو أنها حفلت بكثير من الأسئلة والعناوين، وأخذت مسارا واسعا في التجريب، سعيت في هذه الرواية لتنويع عجيب، إذا كنت في تماس مع فلسطين في نهاية التسعينات، وكتبت الرواية الثانية (أواني الورد) من مدينة (ماعين) الأردنية، فكنت أغرس جسدي كل صباح، أدفنه لمدة شهر كما خلقني الله في طين البحر الميت، لأسلخ الجلد المريض الظاهر، أخرج اللحم الحي للشمس من عزلة قاسية، فصول روائية سميتها (ارتحالات الروح والجسد)، وكأنما كنت التمس في هذه الضفيرة من نسيج عالم روائي، يصعب تأطيره في دلالة محددة وأحادية، الخلاص من كل أوجاعي الأخرى، المبثوثة في نسيج كتابي، وأغسل روحي في المساء، بمياه ( ماعين ) الجبلية الحارة داخل الكهوف، لتتطهر روحي مما علق بها من أدران متراكمة، أخلصها مما عرفت ورأت وعايشت، أنقعها لتبات مطمئنة في المياه الحارة.

حينها كنت أحتشُد، أحضُر لنص جديد وتجربة متجاوزة، لإحساسي أن منطقة الكتابة في الذاكرة، ما زالت بعيدة وما زلتُ خارج أجوائها، فقد استنفذتني الكتابة السيكوباتية، وبتُ قريبا من الكتابة الأسطورية..

تحفل به من رائحة أسطورية وتاريخية مركبة، فتصبح الكتابة المأزومة (السيكوباتية)، أكثر من مغرية، فلم تعد مجرد ردة فعل، وصراع المدن والجنون والموت، ليس نزهة أو قصة حب رومانسية، تحدث في خلفية شارع أي عاصمة عربية، ولو من وراء الحجاب.. ؟

جاءت حينُها رواية (الحدود)، الجزء الأول من ثلاثية (المكتوب مرة أخرى)، تكنس في هذه الأجواء وجه المعاناة، وترصد أجواء القلق والمؤثرات الخارجية، وتستحضر رمزها الأسطوري زرقاء اليمامة، ويقتضي هنا التوضيح والإشارة إلى مسألة التوظيف في الرواية، نص شامل مفتوح يستوعب في البدء الأجناس الأدبية الأخرى (الشعر، القصة، المسرح، الموسيقى، والتشكيل والتراث ) بكل تفريعاته، وأصوات الذاكرة الحية، والشفوي، والتاريخي، والسياسي، والأسطوري، إذا توحد الشكل والمضمون.

إشارات صغيرة، يتلقفها الروائي، وتفتح له عوالم ليست في الحسبان، وتتبدى موهبة الروائي الكبيرة، طين البحر الميت الذي سلخ جلدي، ومياه مدينة ماعين الحارة لتطهير روحي، وجيش صدام حسين يخترق منفذ (صفوان) الحدودي، يبتغي مياه الخليج الدافئة، وكأن نبؤة روائي كبير (غسان كنفاني)، تتحقق على الأرض في هذا المكان، خنق شخوصه في هذا المنفذ الحدودي، يموتون داخل صفيح خزان مياه، و( تحريك القلب ) هي أيضا رؤية روائي آخر، هو عبده جبير من مصر الرامزة إلى وجهة الرواية العربية.

وأريد هنا - الإشارة أيضا، إلى طفرة روائية محلية هائلة، بدأت بعد هذا الحدث، تصحب الحدث المروع والتحولات السياسية والثقافية، وانفراج طفيف وحضور التقنية الحديثة، ولترصد جوانب وصور عديدة من حزمة هذه التحولات، أطلقت حينها العنان، لكناسي ثلاثية (المكتوب مرة أخرى)، وأيضا هنا - حضرت أسطورة (بلقيس)، وسيدنا سليمان في رحلة الحج إلى مكة من بيت المقدس، لتبعث من جديد تداعيات حدث هز الوجدان والمنطقة برمتها، ولتكتمل الرؤية في المكتوب بروايتين هما: (الدنيا الجميلة - وأوراق تكتب في سيرة)، وتفاصيل أظن أنها تفوق مخيلة، تتعمد مجرد التخمين، إذا رأينا ما يحدث في راهن العراق بعين بصيرة، ترى عمق الأشياء والكائنات.

أما رواية ( مدن الدخان ) حديثة الصدور، لا أجرؤ الحديث عنها ولا أستطع إخفاء فرحي في ذات الوقت، وقد وجدت في معرض الكتاب الأخير بالرياض احتفاء كبيرا، وكانت في مقدمة الكتب الأكثر توزيعا قي المعرض، وأعرف أن المتلقي طلبها، لأنها أساس للروايات والكتابة الصادقة، وأنا أضيف أنها كتابة مختلفة في كل شيء.

وليس سرا القول إن بين يدي، قد تكون الرواية الأخيرة (الآخرة)، تكتب بهدوء فصولها النهائية، فمضيت دروب مضاها قبلي شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء المعري، وحقا تعب كلها الحياة، فما أعجب إلا من راغبٍ في ازدياد.

3 - اللغة

تصبح اللغة لباسا في النص الروائي، اللغة الجميلة لا تُجمل واقعا قبيحا، والشخوص والأحداث والمواقف لها لبوس لغوي متغير، فلا يعني تلبس لغة ما لواقع ما، تحييد الكاتب وتمويهه خارج النص، فاللغة جزء من مخزونه المعرفي، وإشكالية اللغة بدأت معي من فترة مبكرة، وشعرت أن الصحافة قضمت مخزون قراءتي الأولى قبلها، وتحضر هذه الإشكالية عند الشروع في كتابة نص جديد، والدربة علمتني أن الكتابة السردية، تحددها حالتين :

- لغة الشخوص والأحداث والمواقف، لغة يومية بعيدة عن التعقيد اللفظي والكلام الوحشي.

- لغة الكاتب، لغة وصفية بما فيها من المحسنات والبديع اللفظي، لغة قريبة من روح السارد، واللغة ذاتها تحمل تراكم السرد.

إشكالية اللغة جعلتني، أدعو (جليلة) أحد شخوص المكتوب مرة أخرى، بمصححة أغلاطي المطبعية والإملائية، حينما أرى أن الأخطاء في الحياة، أكبر من أخطائي اللغوية.

واللغة كائن سحري فيها من الثراء والغموض، واللغة السردية مستويات وتنوع فصيح وعامي، اللهجة العامية واللغة العربية المكسرة، ينطقها كثير من ملايين الوافدين إلى بلادنا، تدخل في النسيج الروائي، لأنهم صاروا جزءا من تركيبية المجتمع ولغته، تأتي في مفاصل الحوار، حاجتي لها أكثر من حاجتي للغة خالصة وصافية، واللغة ذاتها ليست مستهدفة للسارد، فالحاجة إلى لغة موصلة لا لغة جذابة، ولست ضد اللغة الفضفاضة في النص الروائي، إذا كانت ذا دلالة في ذات الوقت، ليذهب إلى الأسلوب الساحر ولغة خالصة النقاء، ليكرس مسافة بعيدة بين لغته، وواقع ما يريد أن يكتبه.

كتبت الجمل المضارعة، القصيرة جدا في الكتابة الأولى، وخصوصا مجوعة البديل ورواية ريحانة، وأظن قارئ نصوصي، يدرك معاناتي مع اللغة.

4 - الملمح والمقدس والنقد

يتبادل قراء الرواية المحلية وكتابها سوء ظن، مجتمع محافظ مكرس بوجه وخطاب وفعل واحد، وجنس أدبي حديث، طبيعته خلق أبنية متعددة الأوجه والمرجعيات، تكشفُ وتكتبُ الرواية كمتخيل سردي ما وراء المرئيات، وتحفل بتعدد الأصوات والرؤى والأفكار والمواقف، وتواجه راهنا مموها على أكثر من صعيد، مجتمعا يخشى كشف سلوكياته وعيوبه، فيمارس بسرية تامة كثير من أفعاله، ويتخذ سواتر واهية ليرفض بعضه بعض بعاطفة أو بغيرها، وتمر الرواية عبر هذا النسيج المجتمعي، فتبرز صور مرفوضة في هذا العالم السردي المتخيل، لتغيب السُلط المتعددة أي نقد تظنه موجه لها، والتجارب كثيرة بدءا من سلطة البيت، والغريب أن تكون المؤسسة الثقافية جزءا من هذه السُلط، فما زال هناك من ينظر إلى النتاج الروائي المحلي، نظرة ريبة وشك ودونية، ويحدث التواطؤ مع أصوات محددة بعيدا عن وجه الأدب والفن، فيتم التكريس والطباعة والقراءة النقدية، والسفر ضمن الوفود الرسمية ودراسة نصوصهم، وفرضها والتعريف بها في مناهج الجامعات، وبلا تواضع مرة أخرى، أشعر أني خارج هذا السياق، وأظن أن نصي ثلاثية المكتوب مرة أخرى، يصنف في خانة الفعل المستقبلي، وما يحدث في العراق كان أكبر من مجرد رؤية وتخمين، والقراءات النقدية المحلية ما زالت فقيرة، فنقاد مرحلة الشعر ما زالوا، ينظرون للرواية بنفس الذائقة، ويكتبون عن الإصدار الروائي بنفس الرؤية، ويكرسون فراغ مفاهيم تجاوزتها المرحلة، وأعني أن هذه الطفرة الروائية، لأبد أن يصاحبها جيل نقدي أيضا، ينطلق من ذات الفضاء، أظن أن هذا الجيل رغم بزوغ أسماء منه، إلا أنه جيل لم يتبلور نقديا بعد، وليس غريبا هذه الكثافة الروائية في ساحتنا، فالرواية العربية غنية ببيئاتها وواقعها، والرواية المحلية جزء من هذا المشروع، شقت ووسمت لها خطوطا عريضة، لست مع من يظن أن هناك مقدسا في مجتمع، بحمد الله كله مسلم في هذه الناحية، فلا يجوز محاكمة شخص الكاتب، وننسى الرواية الفعل المتخيل، لأن لنا موقفا مسبقا ومبيتا. فالمنطق يقول نقرأ الفعل الثقافي، وننقده دون التهويل من خطورة ما فعل الكاتب، ولا يجوز تحميل الرواية مسؤولية خطابات مضمرة ومغيبة في المجتمع، فالرواية فن للمتعة، ليس بالضرورة تبني وجهة نظر أحد، بقدر ما تكون صادقة في رسم صورة هذا الواقع بكل صوره.

النقد الأدبي بمفهومه الحقيقي، بعيد عن نصوصي ولو تم تناوله من زوايا عاطفية، وقد تكون استفزازية، كتهمة كتابة رواية ريحانة، وهناك أسماء أحترمها، سمعت وقرأت رأيها في نصوصي السردية قصة ورواية، تمثل الملمح البارز في تجربتي الجنون والموت، أحترمهم جميعا وأريد النقد الأدبي لكن. سوف أقصر حديثي هنا، فحزمة كبيرة في المشهد الثقافي، أخذتنا بعيد عن ميدان الفن والأدب، والطبيعي أن أصمت علي كثير من الجروح، فلا تعد تهمني رؤية باحث اجتماعي، أو أنثر بولوجي، أو محلل نفسي.

فالنتاج الأدبي المحلي، يجد الحفاوة خارج الحدود، وبوجود التقنية الحديثة، صار التواصل ممكنا، ليعرف الكاتب تأثير عمله وقيمته بتجرد، وأريد أن أختم مع أن هناك أشياء كثيرة يمكن قولها، برأي للناقد عبد اللطيف الأرناؤوط عن الحالة النقدية في قراءة له، عن الاتجاهات الحداثية في رواية المكتوب مرة أخرى، إذ كتب ما يلي:

(الكاتب السعودي أحمد الدويحي، ينقد الواقع، ويفر منه ليصنع بديلا له من الأدب، وهو غاية ما يصبو إليه كل أديب في كل العصور، يبدأ البطل في الرواية وجوديا أو سرياليا، يبحث عن ذاته وأحلامه الفردية وحريته، ثم يؤول أخير إلى بطل ملتزم بقضايا أمته عبر تجلياته كشاهد على واقع الأمة والعصر، فقد بدأ يهدم الواقع واللغة والقيم، ويفيئ إلى الحلم بعنف، ثم تحول إلى هدوء مأساوي بعد فجيعته بالأمة أو الأم، واستسلم للواقع بعد رحلة تغربه، فيشعر أن أدب الحداثة، يمكن أن يجنّد لغايات تتجاوز الرفض واجترار الذات، ذلك أن كل رفض للواقع لا مسوّغ له إذا لم يقترن بالبناء..).

شهادة متواضعة، أريد أن أنهي بها هذه السطور، صعب جدا أن يكتب كاتب ما شهادة عن تجربته بتجرد. وقد حاولت ما استطعت دون الجزم بذلك.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة