Culture Magazine Monday  25/06/2007 G Issue 204
فضاءات
الأثنين 10 ,جمادى الثانية 1428   العدد  204
 

رواد النهضة الأدبية ونقد التجربة
-2- إشكاليات النهضة
د. سلطان سعد القحطاني

 

 

هناك إشكاليات ظهرت مع ظهور النهضة في العالم العربي في القرن الماضي واستمرت تجتر العبارات وتكررها في كل مناسبة، وفي كثير من الأحيان بلا

مناسبة، كإشكالية الحداثة والتراث، والعولمة، وقضية الجديد والقديم، وكل هذه المفردات والعبارات تكوِّن في مجموعها (أقنعة) تتخفى وراءها الأفكار المؤدلجة، ولكل تيار قناعه الخاص به، وهذه الإشكاليات تنسحب على الواقع العربي في جملته، وليست خاصة بالجانب الثقافي، الذي يتعرض للهجمات من حين إلى آخر. ومهما بدا لنا أن تلك الإشكاليات ترتبط بخصوصيات الواقع العربي عن غيره، لوحظ عليه الكثير من التحفظات، فالأضواء قد ألقيت على العالم العربي منذ العصر العثماني، منطلقة من مسوغات التخلف الفكري والجهل والانحطاط في المفاهيم العلمية والفكرية والثقافية، بيد أن الواقع يؤكد أن تلك الإشكاليات ليست موقوفة على العرب فحسب، بمقدار ما هي على العموم قضية الشعوب التي تواجه في تقدمها التناقض بين معطيات إرثها الحضاري ومعطيات الحضارة الأجنبية الطارئة، أضف إلى ذلك قضية الشعوب التي تباطأ مسارها التاريخي، وبالتالي تشنجت مفاهيمها وتقاليدها، وفجأة وجدت نفسها وجهاً لوجه مع أنماط وافدة مغايرة للون الحياة التي ألفتها في الثقافة والتفكير والبناء الحضاري، والإنشاء الأدبي، وكل ألوان الإبداع الفني. وإذا عدنا بالنظر العلمي إلى التفاعل الثقافي والجذور العلمية فلن نجد الأمر جديداً في جوهره، لكن الجديد في التفاعل الحديث، كون التاريخ الاجتماعي للبشرية جمعاء تاريخ مشترك في ظاهره مختلف في باطنه، وأعني بباطنه التفاعل بين البنيتين: البنية المادية والبنية الثقافية، وهاتان البنيتان، متلازمتان ومختلفتان في آن واحد، فالبنية المادية يمكن أن تكون مشتركة في الأنماط العامة، أما الثقافية فلها خواص قد توجد في البنية الأخرى، وقد لا توجد. ومن هاتين البنيتين: المادية والثقافية، في مجتمع متطور ومجتمع منغلق على نفسه تنشأ مواجهات وردود أفعال متباينة إزاء المعطيات التي يقدمها ذلك المجتمع المتطور عن طريق أنماط جديدة لم تعهد في المجتمع الثاني، في العيش وأساليب التفكير...، وكلما كان الفارق كبيراً بين المجتمعين، فيما يخص مستويات التقدم، ومستويات التأخر في المجتمع المتخلف ازدادت أشكال التناقض بينهما. هذا ما حصل بالفعل في المجتمع العربي الذي نام قروناً تحت الولاية العثمانية المتخلفة، وترك الغرب يعمل ليل نهار على ابتكار وتطوير الصناعة وانفتاح الفكر والتجديد، وصار يغني على أمجاد صلاح الدين وفتوحات العرب الأوائل، حتى فاجأته وسائل التقدم من الغرب، وبالتالي وقف على مفترق الطرق، بين مؤيد لهذا التوجه العلمي الأجنبي، وبين رافض لكل معطيات الحضارة الغربية الحديثة. وانقسمت مواقف المفكرين من هذه الإشكالية إلى ثلاثة مواقف، كل موقف له اتجاهه:

1- اتجاه تراثي سلفي، يقف من معطيات الحداثة موقف الرفض المطلق، ويرى فيها قضاء على الثقافة العربية والدين، داعياً إلى التمسك الكلي بالموروث عن السلف، ويعتبر الشذوذ عنه شذوذاً عن طريق الصواب والحق، وأن إحياءه وتمثله هو الخلاص بعينه من التخلف من كل ما تعانيه من تفكك وضياع.

2- اتجاه لا تراثي تغريبي ينطلق من واقع الأمة المأسوي، ومن حاضرها المتخلف، ومن أحكامه إزالة تاريخها كله، والبداية من حيث انتهى الآخرون في العالم المتقدم، باعتبار حضارة الغرب هي المنقذ الوحيد من هذا الانحلال والتقهقر.

3- وهناك الاتجاه التوفيقي، الذي حاول أن يوفق بين الماضي والحاضر، ويأخذ من الجديد ما يتفق مع الحضارة العربية العريقة، ويرى أن التمسك بالمطلق عند البعض خطأ، فهناك منهم من تمسك به وبنى عليه نوعاً من التجديد، فعلى سبيل المثال، مدرسة المدينة المنورة، بريادة عبد القدوس الأنصاري، كانت مدرسة محافظة مجددة، تقترب من مدرسة الديوان التي سنعرض لها في هذه الدراسة (1)، وفي المقابل هناك مدرسة السلفيين النجديين، وهي مدرسة تقليدية بحتة، لم تأخذ الأدب والنقد عن المدرسة العباسية، بل عن المدرسة المملوكية وأساليبها الركيكة؛ وفي رأيي أن هذا المنهج (التوفيقي) هو الصحيح إلى اليوم، فليس كل قديم مرفوض ولا كل جديد مقبول على إطلاقه. وهذا رأي الطبقة اللبرالية التي تدعو للتمسك بالتراث العربي والوحدة، مع الاستفادة من معطيات العصر في التحرر وبناء الدولة العربية الحديثة.

وبعد أن استعرضنا في هذا الجانب أبرز التيارات الفكرية في بداية النهضة العربية، والتي لم يزل التيار الليبرالي التوفيقي هو صاحب السيادة، نظراً لمنهجه الواضح من القضايا العربية في الفكر والتعليم والتنوير، إلا أننا نريد أن نوضح أن هذا التيار له وجهان، الأول إيجابي والثاني سلبي، وسلبية هذا الجانب تأتي من الانسياق الكامل خلف الحضارة الغربية بكل سماتها، والتخلي عن القيم العربية الأصيلة والدين والتراث، وقد حُسِبَ على التيار الليبرالي مجموعة من المفكرين انحرفوا حيناً من الدهر خلف الحضارة الغربية، حتى وصلوا إلى مشارف التيار التغريبي.

ومن البديهي، أن أي موقف أحادي مآله الفشل إذا وقف عند حدود الماضي وانغلق على التراث العربي وحده، أو منفتح على المعطيات الثقافية الغربية أو الشرقية وحدها، فالأول أسر الواقع العربي الراهن في قوقعة ماض مستنفد، مرتكن إليه مسلم بكل ما فيه، دون نقد وتقويم وتحديث، والثاني، قام بتغريب الأمة عن ذاتها وسلخها من هويتها، دون نقد وغربلة للنظرية الغربية ومعطيات الحضارة.

ولنا الآن أن نستعرض آراء بعض المفكرين النقاد في بداية عصر النهضة ووسطه، لنكشف عن الحقيقة أكثر، في توجهات هذه الفئة النقدية في الوطن العربي، وسنقصر الحديث باختصار شديد على بعض منهم، ونجد طه حسين في مقدمة هذه الكوكبة؛ ويعتبر طه حسين أول من فجر الفكر التنويري في قلعة التخلف والجمود في البلاد العربية على المنهج الأوروبي الحديث، ليس من حيث أسبقيته في هذا الميدان، ولكن من حيث جرأته في الطرح، أما الأسبقية، فلْنكن منصفين للتأريخ، فمنذ أن تنبه مجموعة من المفكرين والنقاد والعلماء في القرن التاسع عشر إلى ضرورة الوقوف بحزم ضد تيار التغريب القادم بقوة مع الصناعة والتقنية الحديثة، نزل مجموعة منهم إلى ميدان الاجتهاد، كل ينطلق من خلفيته وقناعته بمنهجه، فمنهم من تمسك بالتراث الأدبي والنقدي على أصول التراث العربي القديم، ومنهم من تفتحت مداركه على الثقافة الغربية ومعطياتها ليوازن بين القادم والمحلي، وكان دور أماكن العبادة، من مساجد وكنائس ومدارس تقليدية دينية بارزاً ملحوظاً في هذا الاتجاه، ويختلف التمسك بالتراث بين متقوقع لا يغير فيه شيئاً ويرى أن التغيير بدعة منكرة تجب محاربتها، ومنهم من توسط في الأمر وطور فيه تطويراً طفيفاً لا يمس جوهره، ولا يطعمه بألوان الجديد القادم من أوروبا (العلمانية) وكان في مقدمة هذا التيار مجموعة من العلماء الدينيين والشعراء والأدباء نهجوا منهج المحافظة بلا تغيير، منهم على سبيل المثال، الشيخ ناصيف اليازجي (1800-1871) والشيخ يوسف الأسير (1815-1890) والشيخ إبراهيم الأحدب (1820- 1883)، وفي الأحساء، في السعودية، كان هناك من العلماء والشعراء من نهج هذا المنهج - مع اختلاف في البنية الفنية - مثل الشيخ عبد الله الكردي، والشيخ جعفر البيتي، من المدينة المنورة، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، من علماء نجد، والشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف آل مبارك، والشيخ أبو بكر خوقير من علماء مكة المكرمة، صاحب (مسامرة الضيف بمفاخرة الشتاء والصيف)، ويرى بعض الباحثين في أصحاب هذا المنهج محافظتهم على التراث خوفاً من تبعات الجديد على الدين واللغة:

(كان معظم المشتغلين بالأدب في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ممن ينتمون إلى المراكز العلمية الدينية) (2) وغيرهم الكثير من أصحاب هذا المنهج المحافظ المتقوقع التراث بلا تجديد، في القاهرة وحلب ودمشق وبغداد ومكة المكرمة والمدينة المنورة. وسيبقى دور هذه الفئة من العلماء والأدباء والشعراء العرب الذين أسسوا للعملية النقدية في البلاد العربية محفوظاً، وكان خوفهم من الانزلاق في متاهات التغريب، وعلى وجه الخصوص، عندما دخلت المدارس الغربية إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، وبدا التعليم الحديث ودخلت المرأة - لأول مرة - المدرسة وتعلمت بجانب الرجل، لكن ذلك لم يمنع من التداخل مع الثقافة الغربية، للاستفادة من معطياتها الحديثة، وانطلقت هذه الثورة العلمية من لبنان أولاً، على أيدي أصحاب التيار التطوري، الذي مثله الشيخ، إبراهيم اليازجي (1847- 1906) وأحمد فارس الشدياق (1805-1887)، ورزق الله حسون (1848-1884)، وأديب إسحاق (1856-1885)، ونجيب الحداد (1867-1899)، هذا التيار انطلق من مواقع القديم، لكنهم في الوقت نفسه أقبلوا على الجديد، ونهلوا من معينه ما استطاعوا (3)، ولا ننسى دور أديب إسحاق في تطوير أساليب النثر العربي الحديث (4) نظراً لإجادته اللغات الأجنبية، وقد تأثر به الكثير من أبناء البلاد العربية في تطوير الأسلوب الحديث، حتى دعا محمد سرور صبان مجموعة من أبناء الحجاز لتأليف كتاب (أدب الحجاز) على الأسلوب الحديث البعيد عن الأساليب المملوكية الركيكة.(5) وكان لوجود التيار الثالث، أصحاب الرؤى النقدية الحديثة، الذي انطلق من لبنان دور مؤثر في طبقة النقاد والأدباء العرب، وكانت هجرة اللبنانيين إلى مصر نقطة انطلاق علمية حديثة، فقد أسسوا الجرائد والمجلات ودور السينما، وتفتحت أذهان الكتاب والنقاد على أدب عربي حديث، وهذا التيار الريادي مثّله، كل من: سليمان البستاني (1856-1925)، وميخائيل نعيمة (1889-1988)، وأمين الريحاني (1876-1940)، ويرى بعض النقاد والدارسين لأدب هذه الكوكبة الحداثية فضلهم في إرساء دعائم النهضة النقدية في البلاد العربية، ومقدار النشاط الذي أحدثوه (6) ومن وجهة نظري أن كتاب (الغربال) لميخائيل نعيمة، كان مفتاح المنهج النقدي الحديث، لما اتسم به من التوازن في المنهج النقدي العلمي، وأن النقد يجب أن يواكب الحياة الجديدة، ويرتبط بمعطياتها الماثلة، مع كونه تعبيراً عن الذائقة الشخصية للناقد، ولعل من المفيد لنا أن نذكر بعض الأسماء التي شاركت في عملية النقد المنهجي الذي صار منهجاً أكاديمياً فيما بعد، على أيدي نفر من النقاد، مثل: فؤاد أفرام البستاني (1904-1994)، صاحب سلسلة الروائع، وهي دراسات أدبية حول أعلام الشعر والنثر في تاريخ الأدب العربي، وقد بنى العقاد على منهجه كتابه (مجموعة أعلام الشعر) وغيره الكثير من الباحثين (7) فكان بحق مفتاح الدراسات النقدية المنهجية في هذا المجال، كما لا يفوتنا في هذا المجال - أيضاً - دور الناقد الكاتب الأديب، مارون عبود (1886-1962)، ومارون عبود كاتب ناقد ساخر، يكتب بعفوية وتلقائية محببة وفكر مثقف ناضج، وهو صاحب منهج نقدي مميز.

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5703» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- الرياض dr_sultan3@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة