Culture Magazine Monday  25/06/2007 G Issue 204
فضاءات
الأثنين 10 ,جمادى الثانية 1428   العدد  204
 

ما قد أضيفه إلى أطروحات المفكر الفرنسي أوليفيه روا
عذرية المهجر وفحولة المنفى «1-2»
محمد عبدالله الهويمل

 

 

إشكالية تبسط نفسها سيما عند الجدل عن النزوح الطوعي أو القسري للعرب والمسلمين إلى الغرب والانخراط في عقده الاجتماعي، والهاجس الضاغط الحتمي للتخلي عن الجذور المزدوجة والتأقلم مع هذا الإطار الثقافي.. قد يبدو هذا من قبيل الاعتباط الكتابي غير أنه يبلغ درجة الحساسية الفيزيائية ساعة ترتبط هذه الفيزيائية ارتباطاً عضوياً بالمخرج الراديكالي ومدى مسبباتها لظاهرة الثنائية الحدية (الأنا والآخر).. وفي مساقات الرفض والإقصاء تندرج هذه التحولات في مشروع إعادة الأسلمة وهيكلة الهوية. المنطق التحليلي غير المستند على تفكيكات المعطى الرمزي التاريخي يأخذ مداه الموجب والسالب في أدق الكتابات التي عرضت لهذه الجدلية، وأعني تحديداً كتابات الفرنسي (أوليفيه روا) الذي فرض نفسه منذ الثمانينات كواحدٍ من أهم المختصين في شأن الإسلام السياسي وأبرز المطلعين على الشبكات الإسلاموية كما ذكر أحد الناشرين، الذي يدرجها هو الآخر ضمن عملية المثاقفة وحتمية العولمة التي من شأنها أدلجة الصراع وإعطاء البُعد الإسلامي حجماً مبالغاً فيه بل وإحراز كسب في توسيع النطاق الحزبي لظاهرتي الاعتقاد والعبادة. وأنا هنا ألمح حجم المغالطة التي تنطلي على القناعة المكينة ذات التماس بالمركب النفسي للهجرة الأولى وذات المفعول الممتد والمحرك للأنساق العربية والإسلامية، وهي ما تجاوزه الباحث الفرنسي وتجاوز معه الشارح البنيوي الأنثروبولوجي بوصفه مسلكاً نفسياً يشي بحتمية الفاعلية الإقصائية بعد الهجرة إلى دار إعادة البناء.

بدر سبتمبر

أذهب إلى أنّ في المخيلة المثالية للهجرة المؤسلمة حالة من الحضور الباطن للمركب النسقي (الهجرة - معركة بدر) في أفق الإدراك المناضل، وهي الهجرة ذات البداية والفرصة لاستجلاء الأرض البكر، ويتمظهر هاجس البداء بكثافة حرارية تمنحه حركية واندفاعة هستيرية باتجاه النهاية لتحقيق توحد للازدواجية الأولى والكلية ولإزهاق الباطل الحاضر جغرافياً في خارطة الذهن المؤدلج. بن لادن يصف فاجعة 11 سبتمبر ب(غزوة منهاتن) وليس معركة. والغزوة حين تثب إلى طرف التعبير المرتجل وبتلقائية المنتصر الموهوم والنسقي الذي يغتصب من المعجم ما يضفي مزيداً من الصخب على هذه الاحتفالية الرازحة تحت إملاءات ظرف جاهلي صادف نشوةَ سورياليةِ الاعتداء سيما أن الجاهليين يصفون المواجهة الدموية في زمانهم بالغزوة أكثر من استدعائهم لمفردة (المعركة)، وهي الأكثر حضوراً في شعرهم حتى جاء القرآن وألبسها لبوس الفضيلة ونشر العدالة ونظّم تفاصيلها بل وكثف مترادفاتها.

المشهد في استجلاء الأرض البكر لا يأخذ تمامه ولا يستكمل مداراته إلاّ بتكثيف لوازم الهجرة الرمزية إلى يثرب الوهم، فتنفجر الفردانية بوصفها التخلي عن الجذور المزدوجة للفئة المهاجرة الساعية لإقامة هوية تنطلق من خياراتها الفردية وهي في نهاية الأمر مظهر صارخ للانطواء على الهوية فتؤسس هذه الملابسات طارئاً شعورياً يتماهى مع القداسة النبوية في هجرتها التي تكسب الطارئ تحويراً جذرياً صاخباً تثيره بعنفوان الراديكالية المناضلة وتسبغ الطابع اليثربي المؤطر على هامش فضفاض مهشم الجغرافيا، وعندها تأخذ الهجرة ذاتها واقعاً مهشماً يكرس لازدواجية كسر الجغرافيا من شأنها أن تفسر هذا الكسر بفتح يتخطى الحدود فتكتمل الصور المتناقضة التي لم يلمح لها الباحث الفرنسي ساعة أوجز هذه اللحظة بقوله:(الهجرة إلى الغرب هي فرصة متناقضة لإيجاد أرض بكر).. فهل كانت ثقافة الهجرة على وعي صارم بعذرية المهجر وفحولة المنفى. يقع في تصوري أن النسق العصابي الإسلاموي يحتمل في سقف مورثاته تأويلاً مجازياً طائشاً يتحرك في مثلث حاد الزاوية يقول بالثنائيات المتمنطقية (كسر المكان/ الهجرة) (كسر العزلة/ الفتح)، بل إن إعادة الأسلمة التي تندرج في الانفصال عن أشكال الهوية المكتسبة ترمي بضلالها التعريفية لفوضى الثنائيات والكشف البنيوي الأكثر عمقاً للتطويق أو العزلة كاصطلاحين نفسيين فردانيين يذعنان لسجالات الأسلمة وينفصلان عن الأطر الرمزية والسياقات المجتمعية الأولى ويكتسبان المدى العولمي بوصف الظاهرة الإسلامية عالمية الطابع وإحدى محركات المثاقفة التي تنتج ذاتها تحت العنوانات الكبرى، وهو ما يبدو متعذراً داخل الإطار الجغرافي والثقافي الأمّ.

ففردانية التعريف هي أبرز تجليات كسر المكان، وفعل (كَسَرَ) هو أحد الأفعال العضلية قد يتجه في التصنيفات الاعتباطية إلى خانة العنف. لنجاح الهجرة فحولة ذات ثقل خاص يمنح انطباعاً بالظفر ونهوض الفرد السسيولوجي والرهان الفعلي لقيام الخلافة الافتراضية والمجتمع الوهمي التي لا تبدو عصية أو هكذا يطرحها التمويه المستعذب لدى بعض المهاجرين الذين لم يفلتوا من قبضة سراقة بن مالك وإن خادعوا أنفسهم. فالوهم هنا يغري بتكثيف شروط الفحولة الظافرة المتمظهرة في أنماط حزبية تلتئم لتشكيل نواة المجتمع اليثربي الخيالي ولاسيما أن المسجد ينهض بدور التنظيم العفوي والحاضن الرمزي وليس الحزب. وتبدو المفارقة بين الوهم والسناريو الذي تقرأ الذاكرة في النشأة الأولى لقيام الإسلام في حين أن الفردانية بكل رحابتها المصطلحية تنكفئ على ذاتها لتستنسخ السيناريو الأول دون درء الملابسات الحزبية والفئوية الحادّة والمتسامية هي الأخرى في لحظة - إسلام عولمي - فوق التفرقة العرقية والثقافية واللغوية لتشكل ذوات دافعة للغربة من خلال عملية تبادل واستعاضة بين المتعذر المجتمعي والممكن الفرداني عبر (إعادة خلق البدهية المتمحورة حول الجامع).

الغربة وسيكولوجيا الذهول

يذهب رأي في علم النفس إلى أن الدخول إلى وسط اغترابي على نحو تلقائي من شأنه - على نحوٍ ما - أن يسبب خللاً في أجهزة الاستقبال الحسية كالبصرية أو السمعية مثلاً. وقد اتفق لأحدهم أنه جالس كهلاً وَعِر العارضين على إثر حلاقة خشنة وظهر له بعد عام من مجالسته أنه كان غزير شعر اللحية يشاهده من خالطوه بل ومن شهدوا ذلك المجلس، وقد يُعزى هذا إلى رهبة اللحظة الاغترابية التي هي أشبه بهتك طقس جغرافي يستبطن كثافته التاريخية الخاصة به.

وتأخذ هذه الطقوسية تمام بلاغتها وقتما يغشاها قلق عارم يدفع بها صوب غاية تليق بهذا القلق. الهجرة، النفي،النزوح،اللجوء كلها بواعث ومخرجات قلق تحمل المهاجر على تمثل خطاب اغترابي يستفتح فاعليته بأولية مشروع للتغيير أو هي النواة البكر لتحقيق مشروع يثرب أو بطولة الهجرة.

(المهاجرون)، (الهجرة) صوتان نافذان في فضاءات العقل والعاطفة الإسلامية إلى حد الدوي بل إنّ لحظة التوحد تبلغ مبلغ صخب عاشق يتماهى بالعاشق مع هاتين المفردتين والعزلة بهما حتى عن حدود المعقول النصي. ولعلي أذكر هنا إحدى الحالات حيث أفتى أحد علماء الأمة البارزين قبل خمس عشرة سنة - وهو الإمام الألباني رحمه الله - بوجوب هجرة الفلسطينيين من الأراضي الإسرائيلية إلى دار الإسلام تأسّياً بالسنة والهجرة الأولى، وقوبلت الفتوى باحتجاج من بعض العلماء إلى درجة التخويف وتوجيه الاتهام بالعمالة للعدو.

الأهم هنا هو قياس مدى مضغوطية الثقل الرمزي (الهجرة)، (المهاجرون) حتى في تحديد السلوك النفسي وخصوصاً إذا عرفنا أن هذا الإمام الجليل - رحمه الله - كان مسكوناً بالقلق ويهدف إلى بلوغ الغاية المثلى التي تنهض إلى مقام هذا القلق العليّ.

إن السواد من المهاجرين إلى الغرب هاجروا استجابة لاعتبارات نفعية تحصيلية علمية أو اقتصادية أو بحثٍ عن ظروف معيشية مُثلى.. وأزعم أن الهجرة النبوية قامت على النقيض من هذا، فأين (يثرب) في خريطة المهاجر غير اليثربي؟

للاستجابة لهذا يتعيّن عليّ أن أبسط النماذج التي من أجلها سطرت هذا الرأي المستفيض وأعني أصحاب الأسماء المتورطة في أحداث 11 سبتمبر لكونهم أسهل وأعقد العينات وأكثرها عشوائية لمهاجرين لم يزودوا حقائبهم بخريطة يثرب، ومع هذا التجاهل نجدهم حدّدوا ورسموا الأطر الجغرافية ليثرب الوهم. أن كل ما يستوعبه المورث اللاواعي من أسماء وأحداث وخرائط يحفظ في وسط متقلب تتحكم برمزيته وتراتبيته في هذه المدارك ضواغط وجودية؛ لذا فإن الضاغط على (الهجرة، المهاجرون) يحركه من غيابات اللاوعي إلى جلاء الوعي الفاضح في نهوض مسلح يختزل المشروع اليثربي في توبة من لحظة لهو أو علاقة آثمة بالغ الرقيب الفرداني لزهادة الهجرة في تأنيبه، فذهب به في إشباع التوبة إلى حرق مراحل المشروع وبلوغ (بدر) الوهم لتحقق عندها الغاية الموهومة المدفوعة بقلق موهوم.

الرياض _ hm32@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة