Culture Magazine Monday  25/06/2007 G Issue 204
مراجعات
الأثنين 10 ,جمادى الثانية 1428   العدد  204
 

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي

 

 

128 صفحة من القطع الكبير.

تبرز على صفحة الذاكرة قصة أصحاب الفيل وقد اقبلوا بخيلهم وأفيالهم ورجالهم يبتغون هدم الكعبة مدفوعين بوثنيتهم ورجس فكرهم.. الأبابيل طيور تحمل مناقير طويلة وحادة.. وجادة في سخطها وانتقامها.. هل إنها ما عناه الشاعر عنواناً لمجموعته الشعرية؟ استفتح ديوانه بالتكبير.. ومن يفتتح كلامه باسم الله فقد ربح..

طلعت مطايا العقل في تسيارها

مثل الطوالع في الطريق المصحر

ما عاد رائد ركبهم بمراده..

فالدرب أطول من مسير الأعصر

والمصحرون الواغلون بقفره

شربوا السراب من الفضاء الأغبر

لا تنبت البيداء أدواح المنى

فالبيد ما رشفت رحيق الأنهر

يا عزيزي.. السراب ليس فضائياً وإنما أرضي.. إنه تراب خادع يبرق عن بُعد يخاله الظمآن ماء.. حسناً لو أبدلت (السماء) بالتراب.. أما البيداء فإنها تعشوشب بمطر السماء تعطي زينتها.. وتخضر أيضاً بجداول الأنهار التي تمتد إليها.. توشكا مثلاً بيداء قاحلة أحالتها المجاري النهرية إلى حقول.. هذا عن ربيع الأرض.. أما ربيع العقل فكما أوردت إنه الواحة الخضراء التي لا تجف أوراقها. ولا يخف إشراقها:

والواحة الخضراء قلب مؤمن

في ظله الممدود حوض الكوثر

فاغرف لعقلك غرفة من حوضه

فإذا ارتويت مُنحت شوق المبصر

ورأيتَ عقلك ومضة علوية

هبطت عليك من الضياء الأكبر

العقل حين يوجد لا يحتاج إلى من يغرف له.. هو نفسه يقوم بأداء المهمة لأنه مصدر الحركة والبركة. (الراعي والقطيع) محطة لافتة للنظر:

ساق الرعاة قطيعهم للظى الحرو

ب وليس يدري فيم تشتعل الحروب

وبكى العجائز والشيوخ على الشمو

س الزاحفات برغمها نحو الغروب

وبراعم مثل الزهور تفتقت

عسفا وغاض لعسفهن دم القلوب

سحقا لراع لا يُراعُ من الدما

ويروعه عطف الشعوب على الشعوب

رباعية موحية بصورها تجسد واقعا تعيشه البشرية منذ القدم حتى عصرنا هذا. قادة وزعماء يعرضون شعوبهم للدمار. وقلاعهم للانهيار بدافع التسلط. والتفرد بالقرار، ملاحظة (الراعي والرعاة) بالنسبة للإنسان جملة انتهت صلاحيتها.. هناك حاكم وهناك محكومون (الجليد الأبيض) محطة واضحة الإشارة، إنها تعني أصحاب السحنات البيضاء البيض في مواجهة السود..

يا من تنمر للوجود كأنه

رب الوجود. وليس يدركه البشر

أتظن جلدك وهو أبيض ناصع

صنعته آلهة الضياء من القمر

رؤية إغريقية عفا عليها الزمان، لا رب خالق إلا الله، مصطلحات قديمة لمعتقدات قديمة.

أما الذين تنوعت ألوانهم

فمن التراب. وصنع آلهة أخر

اترك تهاويل الضلال ولا تكن

في معبد الطغيان طاغوتاً أشر

التمييز العنصري سبة تاريخية. الألوان ليست العنوان.. لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.. ولا بين أسود وأبيض إلا بما يحمله من قيم.. إن أكرمنا عند بارئنا اتقانا وأنقانا سريرة.. بلال الأسود أقرب إلى الله من أبي جهل. وسلمان الفارسي أقرب إليه من عصاة قريش.

(الأرض المضيئة).. كيف رآها شاعرنا الفلالي..؟

يا ليت من راد الفضاء وجابه

حتى تخلى جسمه عن وزنه

يرتاد أبعاد النفوس فإنها

أعلى، وأبعد من مسابح سُفنه

فإذا انتحى لسمائها بسفينة

من روحه يحظى برفعة شأنه

من خَفَّ وزنا في الفضاء فما

عليه. إذا تخفف من مطالب بطنه

شاعرنا وهو على حق يرى في اجتياز العقول.. وارتياد أبعاد النفوس غزوا له مردوده الإنساني.. إنه يفجر الطاقات.. ويذيب جليد العلاقات.. ويوفر طاقة وجهداً. ومالاً لصالح الجياع على الأرض الذين يموتون ويسغبون لأنهم لا يجدون ما يطعمون.. بينما آخرون ينفقون المليارات في غزو فضائي مردوده محدود.. الأرض بمن عليها أولى من اكتشاف جرم سماوي تكفي نفقات استكشافه إنقاذ ملايين الجياع، والمرضى على كوكب الأرض. فارس رحلتنا بعد أن فرغ من سراب العقل. والرعاة الأشقياء! والتمييز العنصري.. وغزو فضاء مردوده على المعوزين في الأرض موت وجوع. التفت إلى شقيقه العربي حيث يكون مكنونه الشعري. ومكوناته الشعورية لا تميز بين قطر وقطر ولا بين لهجة وأخرى.

يا أيها العربي في كل الورى

إن كنت تسكن في السهول أو الذرى

أعددْ سلاحك عاجلاً إن العدو

على بلادك قد أقام. وعسكرا

والقبلة الأولى نعت حرماتها

أسرع إليها قبل أن تنعى (حرا)

إن كنت تحمل ذرة من غيرة

فاغضب.. لعلك أن تكون مُغَيرا

انه في خطابه يستنهض العزائم والهمم الراكدة.. يستعرضها ان تفيق من سورته حتى لا تُنْفق وتموت.. انه يذكرنا بمقولة شاعرنا الحكيم:

من حُلقت لحية جار له

فليسكب الماء على لحيته

وقد حلقت لحية أكثر من جار.. والحبل على الجوار ما لم تحكمنا صرخة الثأر وتنفض عن أذهاننا المجهدة ما علق بها من غبار. (دعاء) لعل الله جلت قدرته يستجيب له:

يا رب لا تغضب على أوطاننا

إن ضل مركبنا عن الشطآن

فنفوسنا مفتونة بعقولنا

ومن العقول معاقل الشيطان

العقل يا صديقي أبدا لا يأتي معقلا لشيطان وإنما أهواؤنا وطباعنا وشهواتنا أرى إبدال كلمة عقولنا بكلمة طباعنا

لكن حلمك لا يضيق بمدلج

بين المجاهل حائر الوجدان

وأنا ببابك موقف متضرع

يرجو الهدى لعروبة الأوطان

الصحيح واقف.. وليس موقف حتى وان جازت ضمنيا.. الموقف لا يقف على ما احسب. شاعرنا المسكون بحبه لأهله ووطنه يرفض اليأس لأن اليأس انسلاخ من الحياة.. وخروج على طبيعة الإنسان الموجود كي يعمل.. والمولود كي يضيف. من مقطوعته اجتزئ هذه الأبيات.

رفيق الدرب لا تيأس

فإن اليأس قتال

وكن بالله متصلا

فكم لله أفضال

وواصل جهدك المبذو

ل لا تقعدك أهوال

فللأيام مثل الناس

إدبار.. وإقبال

توصيف جميل تستغرقه شحنة إيمانية ألبسها في الكثير من قصائده الوطنية. والتأملية على حد سواء. انتماؤه يرفض الدخلاء:

هذا الدخيل الذي أعمته شرته

ما كان يوما إلى الأحياء ينتسب

إن تسألوا السفر عن أحداث قصته

تروي السطور حديثا كله عجب

في مغرب الأرض كان القتل يحصده

وفي المشارق أعيا قلبه الرهب

لم يلق حصنا يقيه الموت في بلد

الا بلادا بها الإسلام والعرب

يشير إلى اليوم الذي احسن المسلمون معايشتهم في عصور خلت فتنكروا لها في جحود لا نظير له في التاريخ.. أما الملاحظة فعلى مفردة (شرته) والصحيح (بصيرته) يحسن استبدالها.. بحيث يأتي الشطر كما يلي: هذا الدخيل الذي أعمت بصيرته.. أما لعبة الأقدار وهي طويلة فإنني أختصرها في الأبيات التالية:

يا من جننتَ بجندك الجرار

وبلعبة الأسطول.. والدولار

وظننت أن الأرض يملكها الذي

مَلَك النقود. وغلظة الجبار

ما أنت في هذا الوجود إلهه

بل أنت مثلي لعبة الأقدار

تجري عليك سعودها ونحوسها

حكم على كل البرية جاري

نَعَم لكل عظة آية.. ولكل بداية نهاية.. ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع.. ومن زرع الشر يجني وزره.. مسرح المأساة أيضا له مشهد جلي في شعر شاعرنا..

يا مسرح المأساة أبكيت الأمم

أبكل ركن يلتقي دمع. ودم؟!

والموت هل ملأ الكؤوس لغيرنا

من قمره؟ فعلام نسرع للعدم؟

وعلام تصطدم الفيالق بالفيا

لق في صراع مستميت محتدم؟

مازلت أجهل ذلك الإنسان عقلا!

أم جنونا! أم ضياء! أم ظُلم

(أبكيت) الانسب منها.. ابكيت.. ومن (خمره) الأجمل منه من مُرِّه.

في سماء الحب يأخذنا معه.. لعل في حبه فرحة يسعد بها، ونسعد بها معه:

يا حبيبي قد تولى ليلنا الطاغي دجاه

ومحيَّا الفجر أبدى في أمانينا ضحاه

ليس بدعاً أن تراني. كلما تدنو أراه

وجهك الوضاء فجر تعشق الدنيا ضياه

شاعرنا أراد أن يضيئه فأظلمه على وزن أراد أن يُعربه فأعجمه.. كيف لحب أن يأتي سعيداً وقد تولى ليله الطاغي دجاه؟ انه يعمق بهذه الصورة ظلام المشهد بدلا من أن يجليها.. ولكي تكتمل الصورة الجميلة الموحية بالفرح لا بد وان تتغير الجملة. على النحو التالي. (يا حبيبي قد تولى ليلنا الداجي سناه). (شعب محمد) صاغ له من شعره سوارا يبرق.. جواهره عقدا ثمينا من تاريخ تليد. ومجيد بالعطاء.

كانت لنا فوق البسيطة دولة

سعدت بها الأجناس والألوان

ركعت لها الأهرام رغم شموخها

وهوى لوطء خيولها الإيوان

وصروح من سلبوا الشعوب حقوقها

دكت... ودان لحكمها الرومان

نصبت سرادق عدلها للخائفين

فعدلها للخائفين أمان..

ضمت بأجنحة السلام عوالما

وتعانقت في ظلها الأديان

وبصوت حب ينشد المساواة عنونه عنوانه (الناس إخوان)

جميع الناس إخواني ويسعدني

وجودي بين إخواني مدى العمر

كلنا معك نسعد بهذه الرغبة.. وهذا الاشتهاء.. المؤمنون إخوة.. ويسعدني أيضا لو أجريت صياغة الشطر الثاني المختل. حسنا لو كانت صياغته وفق الآتي: (وجودي بين ظهرانيهم مدى العمر).

وهل يحيا أنيس الطبع منفردا

بلا ولد. بلا زوج. بلا صهر

بلا صحب يشاطرهم نقاء الن

فس في همس وفي جهر وفي سير

بلا رفقاء يشاطرهم مضاء العز

م. والإقدام إن نهضوا إلى أمر

القصيدة طويلة تطغى عليها الخطابة. والمباشرة مثل الكثير من مقطوعاته الشعرية. أفكارها ومضامينها أجمل من أدوات سردها. وقف شاعرنا فلالي أمام ضريح أمه يمنحها بشعره لمسة وفاء.. وهمسة عرفان بجميلها..

لقد أحسنت يا أمي إليا

ولم أحسن بخردلة إليك

سوى أني أطعتك مستجيبا

لأمر الله إذ أوصى عليك

لقد أسعدت يا أمي نفوسا

ولكن الحياة قست عليكِ

سيسعدك الإله بكل خير

ومرأى الله يُسعد مقلتيك

ومن حديثه لأمه واعتذاره لها يرقب الكون محاولاً انتزاع الأخيلة المتراقصة من حوله.

لو فتش الإنسان في أعماقه

لرأى شعاع النور في كل البشر

ورآه حتى في التراب وفي الحصى

وذرى الجبال الشاهقات وفي الشجر

أوما ترى الاشعاع ند من الميا

ه الجاريات بقوة تغشى البصر؟

وجهة نظر!! وعن القمر يقول وهو في رحلة شعرية إليه:

يا ناثرا ذوب اللجين مفضفضا خضر الشجر

عش في مدارك مسفرا فلأنت أحلى ما سفر

وامدد غلالتك الرقيقة فوق أبيات الشَّعَر

فلنا هنالك ظبية سمراء زينها الحور

فاضمم حماها في ردائك كي يطيب لنا السفر

مفردة (ما) في الشطر الثاني ناقصة.. الأنسب (مَن).. ومن وحي المشيب قال:

كلما أحسست وهنا في عروقي أو عظامي

أطرد الآمال عني وهي في صدري دوامي

إنما دقات قلبي تفتح الدنيا أمامي

ثم تدعوني نهوضا ومسيرا للأمام

أبيات أربعة من أجمل ما أعطى.. انه شاب الرؤية.. فتي النظرة لحياته.. لا يعجزه وهنه عن الأمل.. ولا تقصيه دواجيه داخل صدره عن رؤية الحياة مشرعة الابواب.. هكذا تأتي النظرة موحية بيقين وفأل لا يصدأ مع ركام الأعوام وإنما يتجدد.. ويتمرد على الركود إلى العجز والشلل النفسي. في ديوان شاعرنا الكثير من المحطات المتشابهة في مؤداها واغراضها أتجاوزها معكم بحثا عن جديد يطرح رؤية جديدة بصياغة جديدة، (يا حبيبي) واحدة من محطات ديوانه الكثيرة شدتني فيه هذه الأبيات الوجدانية المتمردة.

املأ كؤوسك. أو أرقها

أنا لم أزرك ولم أذقها

عيني التي أسهرتها

من بَعد بُعدك لم ترقها

لحظات قربك في سوا

ك إذا بدت لي أسترقها

فالكبرياء مع المحبة..

يا حبيبي لم أطقها..

هذا ما كنت أبحث عنه،أبيات متدفقة بجمالها وسردها، وتوظيفها للمفردات، ولهذا أثرت أن استزيد من هذا الخطاب المتوهج

امسح دموعك. واسقني

بالكأس منك. وباللمى

فالطير لا يشدو إذا

أضنى جوانحه الظما

والري عندك فاسقني

نهلا شهيا مُلهما

وارو الحنايا. والحشا

وارو الدما. والأعظما

روِّق شرابك فالقنا

ني شاخصات للشراب

واسكبه ضوءا سائلا

في الكأس. أو تبراً مُذاب

فإذا تخطى ومضه

شفة الكؤوس إلى اللباب

ضاءت ليالينا الجم

يلة. وانجلى أثر السحاب.

كل فيها جميل ومشوق بكلّ ظمأ السفر. الشطر الأخير عليه ملاحظة بسيطة. لا أريد للسحاب الممطر أن ينجلي.. وإنما الضباب الذي يكتم الأنفاس.

(صدى الأطلال) أجتزئ منها بضع أبيات:

مذ نأى عيني حبيبي لا أرى

في حياتي غير ليل مظلم

ومراء لم يفسرها الدجى

فهي غرقى في وجود معتم

وحنين الشوق أذكى ناره

فتمشت بين لحمي ودمي

لن تراها غير سهد مجهد

لن تجدها غير خمس في فمي

ومن خواطره الحزينة هذا المشهد البكائي.

أبكي لحظي في الحياة وكم بكيت لما أجد

أجد الحياة تشوب عيشي بالمرارة والكمد

وأمرّ ما يؤذي الأبوة ما يصاب به الولد

هذا يجن.. وذا يهيم.. وذاك مرهون الجسد

وجه جميل آخر.. أعقبه بأبيات أخرى من نفس خواطره الحزينة أختتم بها هذه الرحلة الشيقة مع شاعرنا إبراهيم هاشم فلالي في حصاده الشعري تحت

عنوان (طيور الأبابيل)

لم يبق لي غير المشيب

وغير جسم قد ذبل

ومشاكل قد أثقلت

رأسي وما خضعت لحل

لكنني أمشي كما

يمشي الأنام إلى العمل

للخبز. للمأوى لتسديد السآمة والملل

لم يتَه عجزه عن حركة الحياة كي يحيا الحياة كما هي رغم صعوبتها.. ورغم بصماتها على جسده.. يرى الحياة عملاً لا يتوقف. لا يقهره الكسل. ولا يطاله الملل.. لأنه العمل الذي يرى فيه شهادة أنه حي يرزق.. وهي حي بشعره أعذبه ما جاء مسكاً ختامياً في سرده ومضمونه.

شاعرنا قال: (لم يبق غير المشيب) وأنا بدوري أقول لم يبق لي غير أن أودعكم في رحلة تأتي مع شاعر آخر تحت مظلة هذه الاستراحة.. الذي آمل أن تجدوا فيها الراحة.

++++++++++++++++++++++++++++

الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 - فاكس 2053338

الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 - فاكس 2053338


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة