Culture Magazine Monday  25/06/2007 G Issue 204
قراءات
الأثنين 10 ,جمادى الثانية 1428   العدد  204
 

الرواية وتهمة الإساءة إلى الأخلاق والمجتمع
رواية (مدام بوفاري) أنموذجاً (2)
أحمد علي الصغير

 

 

إن إرنست لا يستطيع معرفة الأفكار التي تسكن في ضمير فلوبير، بيد أنه من خلال (الفصل العاشر من الرواية) يقرأ تشكيكه في الموت من خلال عبارة (إن هناك بعد موت شخص شيء يشبه الذهول الذي يملأ الجو، وذلك لأنه من الصعب فهم هذا العدم الطارئ) ثم يعلق بأن هذه إذا لم تكن صيحة عدم إيمان فهي صيحة شك لا تقبل.

وهنا أتذكر كم من الروائيين انسربوا خلف شخصيات رواياتهم وأفسحوا لها المجال لتعبر عن نفسها وتقول ما تريد من اعتقادها وبما يناسب طبيعتها فكان الثمن أن اعتبرهم المجتمع وشخصيات أعمالهم وجهين لعملة واحدة وتركوا أسرى لنظرة اجتماعية لا تحمد عقباها.

ويخلص إرنست في نهاية عرضه هذا إلى نتيجة منها قوله (وأنا أسجل هنا أيها السادة شيئين: تصوير رائع من حيث الموهبة، ولكنه ملعون من حيث الأخلاق، نعم إن السيد فلوبير يعرف كيف يجعل لوحته الروائية بكافة وسائل الفن، ولكن بدون حيل الفن فليس لديه ضبابية ولا نقاب، بل الطبيعة في عريها الكامل وفجاجتها الكاملة) ثم يبدأ في الإجابة عن الاعتراضات التي يتوقع أن توجه لاتهامه هذا يقول: (لسوف يقال لنا كاعتراض عام: إن الرواية في النهاية أخلاقية مادامت الخطيئة قد عوقبت؟ ولهذا الاعتراض جوابان فأنا أفترض افتراضا أن الكتاب أخلاقي، ولكن الخاتمة لا يمكن أن تغفر للتفاصيل الشهوانية التي يمكن أن توجد فيه).

وفي نهاية مرافعته يدين إرنست الأدب الواقعي كله قائلاً: (وهذه الأخلاق تدين الأدب الواقعي لا لأنه يصور الشهوات: البغض والانتقام والحب، فالعالم لا يحيا إلا بها، ومن واجب الفن أن يصورها، ولكن لأنه يصورها بلا ضابط ولا حدود. والفن بغير قاعدة لا يعود فنا، وإخضاع الفن للوقار العام ليس استبدادا به، بل هو تشريف له، والإنسان لا يكبر إلا بقاعدة) ويطالب بمعاقبة كل من المؤلف (المتهم الأكبر)، ومدير تحرير الصحيفة على الأجزاء التي كان من الأجدى به أن يحذفها كما فعل مع بعض الفقرات، والطابع وإذا كان إرنست قد بدأ حديثه باعتراف فإننا نستطيع أن نقول إن الاعتراف في بداية أي عمل -أدبي أو غيره- هو إما تذكير بأن أفعال الإنسان قابلة للصواب والخطأ ولا يمكنه الجزم بأنه دوما محق وبالتالي السماح والقبول بالرأي الآخر -وهذا ما لا أراه هنا ؛لأن إيصال الرواية إلى المحكمة دليل على إقصاء الرأي الآخر تماما - وإما أن يكون استدرارا لعطف القارئ أو السامع كي يقف إلى صف المعتذر ويتغاضى عن النقص ويتفهم حالته والصعوبات التي واجهته، وهذا ما أرجح كفته في بداية إرنست هذه. في المقابل يبدأ محامي فلوبير (ماري سينار) مرافعة دفاعه بثقة واطمئنان قائلا: (إن السيد جوستاف فلوبير متهم أمامكم بأنه قد وضع كتابا رديئا، وبأنه قد أساء في هذا الكتاب إلى الأخلاق العامة وإلى الدين، والسيد فلوبير موجود إلى جواري، وهو يؤكد أمامكم أنه قد وضع كتابا شريفا، ويؤكد أن فكرة كتابه منذ السطور الأولى حتى الأخيرة فكرة أخ لاقية، دينية، وأنها إذا لم تحور (ولقد رأينا خلال لحظات ماذا تستطيعه الموهبة الكبيرة لكي تحور فكرة) فإنها ستكون، وستعود بعد لحظات، بالنسبة إليكم، كما كانت بالنسبة لقراء الكتاب- فكرة أخلاقية ودينية قبل كل شي، ومن الممكن التعبير عنها بهذه الكلمات: (الدعوة إلى الفضيلة ببشاعة الرذيلة) وينطلق في دفاعه ليرد على محامي النيابة العامة واقتطاعه لبعض الفقرات حيث يرى أنه لا يمكن تجزئة العمل الأدبي عامة والروائي خاصة (إنكم ترون كيف أن كل هذا بسيط عندما نقرأ الكل، ولكن في مقتطفات السيد محامي الإمبراطورية تصبح أصغر كلمة جبلا) ثم يوضح هدف الكاتب ووسيلته لتحقيق هذا الهدف حيث تظهر عيوب المجتمع في كل صفحة من الكتاب بقدرة فائقة استطاع فلوبير أن يلاحظ بها كل شيء، مضيفا أن ذلك كان بشهادة محامي النيابة العامة نفسه.

ويدلنا سينار على أمر قد يتسبب في إيصال الروايات إلى المحاكم وهو النقد ولا سيما الذي يركز على جوانب في الرواية تثير حفيظة القارئ (إن الذي يثير في كتاب السيد فلوبير هو ما سمته بعض المقالات النقدية التي كتبت عنه بالدقة الفوتوغرافية في تصوير نماذج الأشياء، وفي استبطان الفكرة والقلب الإنساني، وهذا التصوير يزداد إثارة بسحر الأسلوب، ولتلاحظوا جيدا أنه إذا كان لم يستخدم هذه الدقة إلا في تصوير مشاهد الانحطاط، لاستطعتم بحق أن تقولوا إن المؤلف قد استطاب وصف الانحطاط بتلك القوة التي اختص بها) ويمكن أن نسجل هنا أن إمكانية حدوث ذلك تزيد حين لا يقرأ الشخص العمل ويرهنه ورأيه للناقد الذي قد يحاول توظيف الرواية لخدمة مشروعه النقدي.

ويبقى سينار في هذا الإطار ليتضح لنا فرق في الخطاب ما بين محامي النيابة العامة ومحامي الدفاع، فبقدر محافظة إرنست على الزاوية الاجتماعية نجد سينار هنا يهتم بالقيمة الأدبية أيضاً، ويعول عليها كثيرا (إنني أدافع عن رجل لو أنه لقي نقدا أدبيا بصورة كتابه، أو لبعض التعبيرات، أو لكثرة التفاصيل، أو لنقطة أو لأخرى- لقبل هذا النقد الأدبي بأرحب صدر، ولكنه عندما يرى نفسه متهما بالإساءة إلى الأخلاق وإلى الدين فإنه لا يكاد يصدق نفسه) ويوضح أن الأدباء اتفقوا على الإشادة بالموهبة الأدبية وبالأسلوب وبالفكرة الممتازة التي تسيطر على الكتاب مبينا أن الرواية وإن كانت أولى أعماله إلا أنها ليست مجرد إطلاق لقلم يسير برؤية ذاتية دون تمحيص وتدقيق، بل هي بحث أدبي رفيع نابع من إيمان ودراية عميقة بما يفعل (لم يكتب فلوبير هذه الرواية بغرض التسلية لبضع ساعات بل إنه كتبها بعد سنوات من العمل والدرس، وبعد رحلات وصلت إلى إيطاليا وبلاد الشرق: مصر وفلسطين وآسيا الصغرى، والتي إذا ارتادها رجل واسع الذكاء -والكلام لسينار- استطاع العودة بشيء سام، .... وبالتالي فإنه قد رأى أخلاق الكثير من الناس ومدنه، ولم يقتنع بالملاحظات التي يستطيع أن يقدمها له الوسط الذي يعيش فيه) وإذا كان فلوبير لم يكتف بالملاحظات التي من المكن أن يأخذها من مجتمعه دون أن يتعمق في غيره وتتسع دائرة تفكيره ونقده فإنه فضلا عن ذلك لم يعتمد على ملاحظات يمكن أن تكون حدسا شخصيا لا أكثر.

ويستشهد سينار على قيمة العمل الأدبية بكلام لامارتين الذي قال: (إن هذا خير كتاب قرأته من عشرين عاماً) والذي لما عاد إلى باريس سأل عن إقامة فلوبير، وكلف سكرتيره أن يبلغه إعجابه، ورغبته في لقائه، وقال له حين علم بالمحاكمة (إنني أعتقد يا ولدي العزيز أنني كنت طوال حياتي الرجل الذي فهم فهما صحيحا في مؤلفاته الأدبية ومؤلفاته الأخرى ما هي الأخلاق العامة والأخلاق الدينية، وليس من الممكن أن توجد في فرنسا محكمة تدينه، وإنه لمما يوجب بالغ الأسف أن يساء على هذا النحو فهم طبيعة المؤلف وأن يؤمر بمحاكمتك) ويرى سينار أن حكم لامارتين من الأحكام التي تستحق أن توزن.

ويتطرق سينار لبعض الفقرات التي وردت في كتب أخرى وسمح لها بالتداول ولم يحتج أحد بأنها تسيء مثلا للأخلاق أو الدين أو أنها تخدش حياء الفتيات اللائي يقرأنها، بل يذهب إلى أبعد من ذلك فيستدل بكتاب يقدم كمكافأة لتلاميذ المدرسة، وكيف أن هذا الكتاب ضحى بكل شيء في سبيل الجمال الأدبي ومع ذلك فقد أعطي كجائزة لتلاميذ البلاغة، ليحقق بذلك توازنا يتخلص فيه ممن قد يحتج عليه بدعوى أنه منحاز للجمال الأدبي على حساب معطيات أخرى من المبدأ السخيف والكاذب (الفن للفن). ويورد كذلك بعض الفقرات من كتب أخرى لأنه يرى أنه حين يحاكم عمل فلوبير على فقرات يسيرة فإنه من الواجب محاكمة الجميع، وهنا تثور في رأس قارئ المرافعة أسئلة كثيرة: فلماذا يحاكم هذا العمل دون سواه؟ وإذا حاكم مجتمع إنتاجه المحلي فما العمل مع الإنتاج العالمي؟ هل بوسعه أن يظل فارضا الوصاية على عقل القارئ؟

وينهض سينار فيأخذ المقتطفات التي اشتقها إرنست بدعوى الشهوانية والتشكيك هذه التهمة التي يراها صاخبة وتشنيعا حقيقيا؛ لأن كل من يسمع أقواله سيخيل إليه أن التشكك سيطر على الرواية وهذا الاتهام والتكفير يرى فيه ابتعادا كليا عن الحقيقة، ثم إن سينار لم يلحظ في العمل ما يدعو للخوف على الفتيات من قراءته (ومع ذلك فإنني يا سيدي محامي الإمبراطورية لم أعتقد أنني أسيء صنعا بقراءة هذه الصفحات لبناتي المتزوجات، وهن بنات فضليات تلقين أمثلة ودروسا صالحة، ولم يحدث قط أن انحرفن عن الطريق المستقيم لأي تطفل، ولا تطلعن إلى أشياء لا يمكن ولا يجوز أن تسمع) ويتساءل عما يدور في بعض المسارح من ظهور نساء يتعمدن الإغراء فرحات سعيدات أيسمى ذلك احتراما للأخلاق؟! وبالضبط هذه معاناتنا مع بعض الفضائيات التي تقدم الإغراء في أبهى حلله وزينته وبالصورة والصوت ولجميع فئات المجتمع دون أن يهيج ذلك أحدا ليثور هذه الثورة على كاتب يريد أن يكشف عيوب مجتمعه ليتلافاها وربما يحاول معالجتها. وينتهي سينار من حيث بدأ (هل قراءة مثل هذا الكتاب توحي بحب الرذيلة أم توحي ببشاعة الرذيلة؟ وهل التكفير البشع عن الخطيئة لا يدفع ولا يستثير نحو الفضيلة؟ إن قراءة هذا الكتاب لا يمكن أن تولد فيه أثرا غير الذي ولدته، وهو أن الكتاب ممتاز في مجموعه، وأن تفاصيله لا غبار عليها، وجميع الأدب الكلاسيكي يبيح لنا صورا تغاير ما سمحنا لأنفسنا به، ولقد كنا نستطيع أن نأخذها كنماذج من هذه الناحية، ولكننا ألزمنا أنفسنا باعتدال سيكون محل تقديركم، ولو جاز أن السيد فلوبير قد جاوز الحد الذي التزامه بكلمة أو بأخرى، لما كان لي أن أذكركم أن هذا أول مؤلف فحسب، بل كنت أقول لكم أيضا- بفرضه قد أخطأ - فإن خطأه لا خطر منه على الأخلاق العامة).

ويأتي دور المحكمة التي تبدأ تلاوة الحكم بإقرار ما ذهب إليه سينار في أن الفقرات موضع الاتهام إذا ما وجدت منفردة ومنفصلة تعتبر منافية للذوق السليم ومسيئة لبعض الاعتبارات، ثم توجه العتب إلى المؤلف الذي ترى أنه يستحق لوما قاسيا لأن مهمة الأدب -من وجهة نظرها- تزيين النفس والترويح عنها لرفع الذكاء، وتطهير الأخلاق أكثر من إثارة الاشمئزاز من الرذيلة، ثم تقر بوجود الهدف الأخلاقي في الرواية من حيث المبدأ، لكن كان من الواجب أن يكمل في التفاصيل بنوع من القسوة والتحفظ في التعبير، وترى أنه من غير الجائز - بدعوى تصوير الشخصيات أو اللون المحلي- أن يسجل الكاتب المنحرف من الوقائع والأقوال، كما أن هناك حدودا لا ينبغي للأدب مهما كان أن يتخطاها وهذا ما لم يفعله فلوبير وزملاؤه، وتقر المحكمة أن فلوبير (قد عمل في كتابه هذا بجد ولزمن طويل من الناحية الأدبية ومن ناحية دراسة الشخصيات، حتى إن الفقرات التي انتقاها قرار الإحالة مهما تكن معيبة إلا أنها تدخل - سواء من ناحية الأفكار التي تعرضها، أو الأوضاع التي تصورها -تدخل في مجموع الشخصيات التي أراد المؤلف تصويرها، ومع صبغها بواقعية مبتذلة منفرة في كثير من الأحوال)، وتتحدث عن نية فلوبير وما أعلنه من احترام لكل ما يتصل بالأخلاق العامة، ولم يظهر أنه كتب لإشباع الشهوات الحسية وروح الإباحية والعربدة، أو تسفيه الأشياء التي يجب أن تحاط باحترام الجميع، وكان خطأه - برأيها- أنه أغفل القواعد التي لم يكن من المفترض أن يتجاوزها أي كاتب يحترم نفسه، ثم تصدر الحكم: (وفي هذه الظروف وبما أنه لم يثبت الثبوت الكافي أن بيشه (مدير تحرير الصحيفة)وجوستاف فلوبير (المؤلف) وبيليه (طابع الصحيفة) قد ارتكبوا الجرائم المنسوبة إليهم، (فإن المحكمة تبرئهم من الاتهام وتسرحهم دون مصاريف).

فتصدر الرواية حاملة إهداء جوستاف فلوبير إلى المحامي ماري سينار- على صفحاتها الأولى- وتعليق: (...فبفضل دفاعك المجيد، اكتسب كتابي هذا في نظري الخاص من الأهمية فوق ما كنت أرجو وأتوقع). كأقصى ما في يد هذا الكاتب المسكين حين يعامل وكأنه سبب كل فساد، وحين يترك المجتمع مناقشة مشاكله ويدس رأسه في التراب خوفا منها، ثم يبدد طاقته في قمع الرواية وكاتبها.

* ينظر النص الكامل للمرافعة الملحق بترجمة الدكتور محمد مندور للرواية الصادرة عن دار الآداب- لبنان.

تونس alsager85@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة