الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 25th August,2003 العدد : 26

الأثنين 27 ,جمادى الثانية 1424

مالئ الدنيا
عبد السلام العجبلي

منذ بضعة شهور حفلت الصحف المصرية بأخبار القبض على مسؤول كبير في هيئة الاذاعة والتلفزيون المصرية استغل مركزه في تناول رشوات مالية وهدايا من عدد من الاطباء ليظهرهم على شاشة التلفزيون في برامج صحية، فيلفت هذا الإظهار الناس إليهم ويكون دعاية كبيرة لهم في مجال عملهم الطبي.
القيم الكبيرة للرشوات النقدية والهدايا التي تناولها ذلك المسؤول، على ما ذكرته الصحف في حينه، دلتني على مقدار الفائدة التي كان أولئك الأطباء يطمعون بنيلها من ذلك الظهور التلفزيوني.
كما انها ساقت الابتسامة إلى شفتي حين تذكرت موقفي الشخصي، وأنا طبيب مثلهم، من هذه الأداة العجيبة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في هذا العصر، وأعني بها التلفزيون.
فالواقع أن ثمة نوعاً من النفور يبعدني عن التلفزيون. يبعدني عن مشاهدته المستمرة كما يفعل كل الناس الذين يتابعون مسلسلاته والحوارات فيه والأخبار في العديد من من قنواته.
ومثل ذلك يبعدني عن الظهور فيه رغم الطلب الكثير الذي يوجه إليّ في هذا المجال، فلا أقبل الظهور على شاشته إلا مقسوراً أو شبه مقسور.
وعلى الرغم من النفور الذي تحدثت عنه فإنه من غير الممكن لمن يعيش في عصرنا الحاضر أن ينقطع كامل الانقطاع عن هذه الآلة العجيبة، أية كانت صلته بالعالم حوله، أو بالإعلام كنشاط رئيسي في هذا العالم.
من ناحيتي بدأت علاقة مهمة لي بالتلفزيون منذ أول ظهوره في بلدي سورية، منذ نحو أربعين عاماً.
ففي صيف عام 1962م ميلادية توليت منصب وزير الإعلام الذي كان التلفزيون أحد أدواته المهمة.
اذكر أني أدهشت زملائي في مجلس الوزراء في أول اجتماع لنا بعد تقلدي ذلك المنصب واطلاعي على أول ما عرض علي من ملفاته حيث قلت لهم:أتدرون أيها الإخوان كم هي ميزانية التلفزيون وكان التلفزيون في يومها لا يتعدى في بثه مدينتي دمشق وحلب، في وزارتي؟ قالوا: كم هي؟ قلت: ميزانية التلفزيون ما بين عادية وإنمائية واحد وعشرون مليونا من الليرات، بينما ميزانية جامعة دمشق التي تضم ثمانية عشر ألف طالب يتعلمون في كلياتها الطب والصيدلة والهندسة والفيزياء وسائر العلوم الأخرى ثلاثة عشر مليوناً من الليرات!
لم تدم علاقتي الرسمية بالتلفزيون أمداً طويلاً. أما علاقتي به كطبيب، ولاسيما علاقتي به كأديب، فقد ظلت مستمرة. علاقتي به كطبيب كانت شبه مستنكرة في البداية عند مرضاي في بيئتي القروية والبدوية.
ذلك أنها كانت تعتبر عندهم، في البداية كما قلت، مبعدة لي بصفتها الفنية والثقافية عما يهمهم من عنايتي بصحتهم ومعالجتي لأمراضهم. قال لي أحدهم ذات مرة وكنت اعالجه من مرض مزمن كان يسافر من أجله إلى بلدان كثيرة تكلفه الكثير من النفقات، ثم يكتشف أني أصف له من دون أن ينفق كثيراً الدواء نفسه الذي يصفه له الآخرون، قال لي: والله أنت يا فلان خير منهم كلهم، ولا يعيبك إلا هذا التلفزيون! وهو يقصد بذلك اهتمامي بالثقافة التي تمثلها في نظره هذه الآلة التي جاءتنا من بلاد الأجانب...
كان هذا في البداية كما أسلفت القول، أما بعد ذلك فقد عرفت ما عرفه زملائي الذين دفعوا الرشوات الكبيرة لذلك المسؤول الإعلامي كي يهيئ لهم الظهور على شاشة تلفزيونه، أعني أني عرفت مدى الشهرة التي ينالها الطبيب، وغير الطبيب، من ظهوره على الشاشة الصغيرة.
كان يظهر لي أحيانا أربع مقالات أو خمساً في دوريات مختلفة في شهر واحد فلا ينتبه إليّ أو إلى ما كتبته إلا القلائل ممن حولي.
أما حينما أظهر في لقطة تلفزيونية لدقائق قليلة أو لثوان فما أكثر من ألقاهم يحيونني ويقولون لي: رأيناك أمس في التلفزيون! وأضحكتني واحدة من مريضاتي حين قالت لي وهي مضطجعة على ديوان الفحص في عيادتي: رأيتك يا حكيم منذ ثلاثة أيام وأنت تتكلم في التلفزيون فقلت لَكَ: أنا مريضة... انزل من هذه العلبة وداوني من علتي ولم تستمع إليّ ولم تنزل! كانت تلك المريضة تمزح ولا شك، ولعلها حين وجدتني لا أطاوعها فلا أنزل من تلك العلبة، تجشمت إليّ السفر من قريتها البعيدة لأعاينها وأعالجها مما تشكو منه...
أعلّل تمنعي في أحيان كثيرة عن الظهور في المقابلات التلفزيونية بكلمات جادة أو مازحة. أقول مثلاً إني أديب وكاتب على الورق فقط، ولا أحب أن تتجاوز علاقتي بالفكر والثقافة ميدان الحبر والقرطاس. وفي مرات أخرى أقول: إني أتطلع إلى المرآة فلا يعجبني منظر وجهي، فلماذا أفرض هذا المنظر على الآخرين؟ على أني لا أنكر أن المناسبات التي كتب علي فيها أن اظهر على الشاشة الصغيرة، وهي مناسبات غير قليلة جلبت لي في الغالب ما يرضيني ويسرني.
ولا زلت أذكر أن برنامجاً تلفزيونياً طويلاً أعد عني منذ خمسة عشر عاماً وبث في عدد كبير من التلفزيونات العربية، ملأني سروراً بما تلقيته من رسائل من أبناء البلاد العربية المبعدة الذين اتيح لهم مشاهدته، فوجئت بصورة خاصة بكثرة الذين كاتبوني، ولا يزالون يكاتبونني، من الجزائر منذ ذلك الحين.
بل إني تلقيت من بعضهم هدايا برهنت على بساطتها، على مدى تأثير الكلمة الحلوة والصادقة على الآخرين من أبناء أمتك مهما أبعدتك عنهم المسافات والمناسبات.
نعم لقد أصبح هذا الجهاز العجيب مالئ الدنيا وشاغل الناس في هذا العصر، له عيوبه الكثيرة وهي في الغالب عيوب مستخدميه ومشاهديه لا عيوبه هو. وله مزاحمون أعقبوه في دنيا الاتصالات وكادوا يسجلون الأسبقية عليه مثل الإنترنت. إلا أنه يظل يحمل للكثيرين الفائدة والمتعة، وأحياناً من حيث لا يحتسب هؤلاء الكثيرون، من مثل ما ترويه هذه الطرفة.
فقد زار أحدهم منزل صديق له فأخذ صاحب المنزل يعرّف ضيفه على أبنائه الكثر الذين يجهد ليلاً ونهاراً ليؤمن لهم أسباب العيش.
قال له: هذا ولد في سنة 1990 ميلادية، وهذا في سنة 1992م، والثالث سنة 1994م، والرابع عام 1996م والخامس 1998م.
وتوقف الرجل عن العد. سأله الضيف: وبعد ذلك، ألم ترزق بأولاد أيها الصديق؟ قال: لا، فقد اشترينا بعد ذلك جهاز تلفزيون.. واللبيب من الإشارة يفهم!
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
المحررون
الملف
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved