الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 25th August,2003 العدد : 26

الأثنين 27 ,جمادى الثانية 1424

المسرح العربي
قراءة سريعة في الكوميديا
د. تيسير عبد الجبار الألوسي
ارتبط المسرح العربي عبر تاريخه بهموم جمهوره العريض وتطلعاته، وعبر عن ذلك بأنماط ومناهج متعددة، امتدت من الهزليات الخفيفة الى الملحميات الكبيرة. وكان للكوميديا ثمة موقع متميز في تاريخه.. ومن هنا احتلت الكوميديا مركز الصدارة في المناقشات الدائرة حول قضايا المسرح العربي وموضوعاته اليوم، ويمكن ان نلخص ابرز الاسباب والدوافع التي تكمن وراء الاهمية المتميزة للكوميديا وللدراسات النقدية التي تتناولها فيما يأتي:
1 سعة عدد العروض «الكوميدية» في المواسم الاخيرة.
2 افتتاح مسارح جديدة «فرقا وقاعات عرض» كان كثير منها همه الاساس حركة شباك التذاكر ومردوده المادي.
3 ازدياد رواد هذه العروض وذلك انعكاسا للسبب الاول الى جانب عوامل اخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر التغيرات في بنية الهيكل الاجتماعي العام واتساع الرفاه المادي لفئات اجتماعية معينة «صعود نجم طبقات استغلالية جديدة» مع اتساع مساحة اوقات الفراغ بعد يوم العمل الاعتيادي فضلا عن ارتقاء الوعي والذوق الفني سواء اكان ذلك جوهريا عند «البعض» ام من خلال المحاكاة الساذجة وروح التمظهر الاجتماعي عند «البعض القليل» الآخر. ثم ان آلية تفريغ الشد والتوتر في الظروف الجديدة تصب في احيان عديدة باتجاه القاء المسرحي «الكوميدي».
ان دخول العائلة العربية الشابة في هذه العروض والمسارح يحملنا مسؤولية وضع ضوابط وقيم مقبولة فيما يتعلق بحدود اللياقة الادبية، ومنع ظاهرة الاسفاف والابتذال سواء على صعيد النص ام الاداء.
ولكن ما الاسس التي يمكن في ضوئها تحديد هذه القيم والضوابط؟ ان الاجابة عن هذا السؤال يمكن ان تتحدد اذا ما حددنا اولا مفهوم الكوميديا الحقيقية، مستندين في ذلك الى عوامل الاختلاف بينها وبين المهزلة «FARCE» وهي الصنف الاقرب الى تشخيص كثير من العروض المسرحية التي قدمت على خشبة المسرح العربي في السنوات الاخيرة، من دون ان نغفل جميع تلك الروائع التي قدمت في الفترة ذاتها.
تمدنا الكوميديا ببصيرة نافذة لا تتناول الحياة الانسانية في مشكلاتها المجردة ولكنها تنصب على سلوكيات المجتمع ووسائله ومواضع الضعف في الخلق الانساني وما يتسم به من شذوذ، وهي بهذا المفهوم تمتلك هدفا ايجابيا يتمثل بالترفيه بمعناه الواسع الذي يتجاوز حدود التسلية والضحك لمجرد الضحك.
فالترفيه هنا اشباع للحاجات الانسانية الانفعالية والذهنية على حد سواء، اي انه يتضمن بوصف المسرحية الكوميدية وسيلة للامتاع اهدافا تكسر حدود دغدغة المشاعر والاحاسيس مثلما تفعل العروض الهزلية المتوسلة للطرق الرخيصة والمبتذلة.. حيث تضحي المهزلة «الفارص The Farce» بالاخلاق من اجل المقالب التي تحطم القواعد والاعراف الاجتماعية العامة، فتسخر مهزلة بعينها من سلطة الاب والعلاقات العائلية من اجل مقالب التقاذف بين الانباء بالفطائر في اطر صنع مشهد الضحك على هذه الشخوص.. وتعد هذه الحالة قاعدة بنائية لجنس المهازل «Fhe Farces» حيث تحاول خلق الضحك بتقوية المقالب الهزلية على حساب الشخصيات والسلوك المهذب.
ورب قائل ان العامل المشترك على الرغم من هذا التفسير يبقى منحصرا بالضحك سواء في الكوميديا ام المهزلة، غير ان هذا القول ينبغي الا ينسينا ان الاختلاف الحقيقي بين الصنفين، على هذا الاساس، ليس في نسبة الاضحاك او كميته، كما يتبادر الى الذهن مباشرة، وانما في الغرض منه وفي وسائل تجسيده.
ولكي نتعمق في توضيح مفهوم الكوميديا لا نقف عند حدود معطيات التسلية والترفيه بما يحملان من خصوصية الدلالة، وانما نحتاج لوقفة متأنية مع مفهوم الضحك بوصفه القاسم المشترك البادي للعيان والمباشر.. وينبغي القول بدءا ان الضحك ظاهرة اجتماعية في جوهره، اذ اننا لا نستطيع الضحك بافراط ووضوح حين نكون لوحدنا الا اذا تخلينا مشاركة الآخرين في العملية فالضحك اذن استجابة جماعية يمكن لاجواء «اللقاء» المؤقت لجمهور المسرح ان تثيره بحسب طبيعة المشاهد المعروضة. ويمكن القول ان ثمة نمطين للتعبير المضحك عند كتاب الكوميديا هما المضحكات الشعورية «التندر الفكاهة اللمز» والمضحكات غير الشعورية «الضحك التلقائي». وبناء على ذلك فان دواعي الضحك قد تكون متمثلة في الحط من المقام وقلب اوضاع الشخصيات او في عدم الملاءمة وانتفاء التجانس او باصطدام شعور بآخر او في الرغبة في التحرر من القيود والضوابط الاجتماعية السائدة. ويجسد كتاب هذا النمط المسرحي «الكوميديا» انواع عوامل الاضحاك ب:
1 السمات المادية للشخصيات.
2 سلوك هذه الشخصيات.
3 ذهنيتها واسلوب تفكيرها.
4 المواقف المختلفة والمتناقضة.
5 الكلام: مثل استغلال اللهجات المتجاورة واختلاف استخدام بعض المفردات فيها.
بقي ثمة مسألة حيوية اخرى في موضوعنا وهي مسألة تحمل خطورة كبيرة، ويمكن ان نقول انها الغاية الدائمة لاي عمل مسرحي.. انها مسألة الجمهور.. حيث يحلو «للبعض» اطلاق فكرة «هذا ما يريده الجمهور» والدعاية والتطبيل لهذه الفكرة. انها محاولة توهم بوجود نوع واحد من جمهور المسرح ومن الذوق السائد وطريقة التفكير، بل اننا نلاحظ انفاق الاموال الطائلة في محاولة اشباع حاجة «هذا الجمهور الوهمي المفترض» في الوقت الذي يؤكد الواقع وجود انماط مختلفة من الجمهور المسرحي، ولكل منها ذوقه الخاص وفهمه الخاص ايضا.. والمتتبع لتاريخ المسرح يعرف كثيرا من الشواهد التي تؤكد هذه الحقيقة. فاذا كان صحيحا ان العروض الهزلية الساذجة قد لبت حاجة جمهور معين وداعبت احاسيسه من خلال تحقق وهمي، متخيل في «ذهنيته»، لطموحات وآمال صغيرة في الوصول الى الثروة والرفاه وكسر قيود الواقع الى غير هذه الاحلام الوهمية، فان من الصحيح ايضا ان هذه الحالة الطارئة على الحياة المسرحية من جهة وعلى نمط الجمهور المسرحي من جهة اخرى قد امتدت واتسعت مؤخرا في ظروف معينة تمر بها شخصية المتلقي العربي لهذا الفن.
لقد ولد المسرح من وسط احتفالات الجمهور بأعياد وظل منذ ولادته وما يزال حاملا طابع الالتصاق بواقع هذا الجمهور وتجسيد شؤونه المختلفة، وعليه فمسرح اليوم وهو يقوم بفعالية تفريغ التوتر والشد الكبير الذي يلاحق انسان العصر بعد ايام العمل وعنائها انما يقوم بمهمة هادفة تمتلك مقومات موضوعيتها بالضد من تصور بعضهم الذي يتسم بالعبثية واللاغائية، حيث يتخذون نموذجهم في مسرح جذب الجمهور عن طريق تقديم المهازل الهابطة والغنائيات الراقصة الرخيصة التي تعتمد طريقة الابهار عبر قدرة هذا الفنان او تلك الفنانة على اداء الحركات والسكنات المثيرة للابتذال.
وخلاصة القول فان مفهوم الكوميديا تعرض للتشويه من جهة وذلك بوضعه عنوانا لكل عرض «مسرحي» يتوسل الضحك والى الخلط بينه وبين اصناف اقل شأنا في سبيل جذب الجمهور ومخادعته بل توريطه في مشاهدة اعمال لا تمت بصلة للكوميديا الحقيقية «المهذبة» ولعل هذه الحالة لا تقتصر على ما شهده المسرح العربي من عروض «طارئة عليه» وانما نجده حالة ثابتة «تشكل ظاهرة» في كثير من المسارح العالمية معبرا بذلك عن اهداف المسرح «التجاري» وغاياته خير تعبير.
ولم يقف النقد المسرحي الجاد مكتوف الايدي، فكان له دوره الكبير في محاصرة هذه الظاهرة الطارئة وفي اشاعة القيم والمفاهيم الصادقة للكوميديا الحقيقية.
ونحن هنا نتوصل بناء على ما جاء من تحديد لمفاهيم المتعة والترفيه والضحك وانماط جمهور المسرح، الى ان الكوميديا الحقيقية هي ضحك بمضمون واحترام ومنفعة انسانية، وهي ايضا ذوق راق ومحتوى فلسفي فيما تمثل المهزلة «الفارص FARCE» خاصة عند «جماعة المسرح التجاري» قهقهة فارغة وابتذال ونفعية تجارية «مادية» وقلة ذوق وسوقية. ويمكن القول ان الاخيرة «THE FARCE» مثلت اضرارا بالغة بالقيم الفنية والفكرية على حد سواء فيما يخص المسرح من جهة وفيما يتعلق بجمهوره من جهة اخرى.
ان الكوميديا الحقة بهذا المفهوم بعيدة كل البعد عن العروض التجارية السائدة وهي اذا كانت تضحك فانها تتوسل بالاضحاك الى تجسيد رؤية معينة في الحياة وفي العلاقات الانسانية بل في المجتمع والعصر بأسره. وهي بهذا تقوم على موضوع وفكرة تحقق غاية محددة بوسيلة الضحك من المآزق والاشكالات التي تقع لشخوصها ومن هذا المنطلق يكون للكوميديا اهمية جدية عميقة ذلك انها تظل دائما مطلوبة من ناحية قدرتها على جذب الجمهور ولكن وهذه ال«ولكن» اعتراض قاطع وحاسم تجاه ما تفعله المهزلة التجارية من تخريب وتشويه وهي لا تمثل الاختلاف بين صنفين بل تضع تقاطع التضاد بينهما، بين العمل الذي يجعل الانسان جوهرا له وبين من يضحك على الانسان وقيمه الجمالية الراقية والاخلاقية المهذبة. وهكذا فاننا مع وجود الكوميديا على ان تكون هذه الكوميديا هي كوميديا الذوق الراقي فنا وسلوكا والا فاننا لا نتفق مع الهزليات التجارية الرخيصة ليس لتخريبها الذوق والاخلاق فحسب ولكنها فوق ذلك لا تشكل لنا اية قيمة فنية جمالية بخاصة عندما نتذكر ظروف ولادتها سواء في تاريخها الاول ام في ظروفنا القائمة اليوم.
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
المحررون
الملف
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved