Culture Magazine Monday  26/02/2007 G Issue 188
نصوص
الأثنين 8 ,صفر 1428   العدد  188
 
رقصة المطر
محمد علي قدس

 

 

كان جو الغرفة مشحونا بسكون كئيب. حزن يخيم على المكان في أمد مأسوي. صفير الهواء.. يكسر هدأة السكون من حين لآخر. نسمات الهواء البارد تدخل إلى الغرفة متسارعة من خلال ثقوب النافذة. ليلة من ليالي الدلو.

فجأة. اهتزت الستائر المسدلة على النافذة في جنون. عصف الهواء بأوراق الصحف المهملة على الطاولة الزجاجية، انسكب ما كان في الكأس من ماء.. وتناثرت أعقاب السجائر وبقايا عدة أشياء في كل الأنحاء.

تطلعت امرأة في أواخر العقد الثاني، وقد كاد يبتلعها المقعد الوثير الذي يحتضنها، لم يكن ما حدث بالشيء الذي يثيرها، فقد كانت غارقة في دوامة أنستها العاصفة المحيطة بها.

كانت مشنوقة بأحلام مفزعة تحركت خصلات شعرها الأسود الفاحم في عصيان وتمرد فوق كتفيها العاريتين وجبهتها الحنطية زرعت نظراتها في أرض الغرفة في الزاوية الأخرى، وقف رجل تخطى عقده الثالث بسنوات، بدا وكأنه ينتحر بصمته، الشك مغروس في صدره كنصل ملتاث. نار مسعورة في داخله. سيل جارف من التساؤلات والأوهام يتدفق في خياله، كان ينتظر منها جوابا على أي سؤال من تلك الأسئلة؟. يريد أن يقتنع ليصمت ويستسلم للحقيقة والواقع.

صمت رهيب يهيمن على كليهما استحال في صدره إلى إحساس مغاير. انتفضت نفسه بثورة عصبية مباغتة، أمسك بالإناء الفخاري الذي كان في متناول يده، مفجراً غضبه تناثرت أشلاؤه في الغرفة، اهتزت لذلك فزعة، كأنها استفاقت من غيبوبة. انتظر وصمت.. حتى قتله الصمت كان في موقف الحائر التائه لا يدري ما الحكم الصادر بحقه، لا يدري إن كان ظالما أو مظلوما قاتلا أو مقتولا، رفعت رأسها بعد أن جالت ببصرها في أرجاء الغرفة حيث تناثرت قطع الإناء الفخاري واستدارت إليه بوجهها الشاحب.

التمع بضوء البرق، تبللت خصلات شعرها بدموعها. دوى صوت الرعد مجلجلا، واشتد صفير الريح الليل مسود سوادا كاحلا، لا نجوم، ولا قمر. الجو ينذر بمطر غزير. هبت نسمات عاصفة في وجهها، بدا حزينا، الريح جاءت لتمسح دمعها، المطر ينهمر بعد لحظات ليغسل الحزن والاغتصاص.

الرعد القاصف يكسر حاجز الصمت، ساد سكون كثيب، جاء صوته كصوت الرعد انتفضت له.

(كان بإمكانك أن تكوني أكثر صراحة معي، صمتك يؤكد خداعك لي).

صمت على مضض، كان داخله يغلي كغلي المرجل، بينما كانت هي تلوذ بالصمت في حزن وحيرة، تساقطت فجأة كل الأوراق اليانعة بدت الأغصان أمامها عارية جافة.. تلاشت أحلامها وتناثرت.. كأنها أوراق الخريف في باريس.

(لست أندم على شيء في حياتي.. سوى أني أحببتك).

انهالت كلماته كالنصال على صدرها بلا رحمة، كانت تريد مصارحته أرادت مواجهته بالحقيقة لكن شفتيها تيبستا، صمتها يعذبه، خوفها من مواجهة الموقف يعذبها، لم تكن قادرة على امتلاك الجرأة لتقول له كل شيء. أخذ يخبط الحائط بمقابض يديه.

أبرقت السماء برقا لامعاً.. أحال الغرفة إلى نهار، عصفت الريح بكل شيء.. صفرت صفيرا مزعجا دوى الرعد دويا مجلجلا، انتفضت في مكانها، الرعشة تدغدغ شفتيها، علقت نظراتها الحزينة في وجهه المتجهم، حزن كئيب يخيم على المكان، بدا وكأنه يتعرى من كل إحساس حي. تبلدت حواسه للحظات مرتقبة.

قالت في نفسها.. والدمع طفاح عينيها:

(كيف أقول له: إني ضعيفة أمام كلمته، مغلوبة بالهيمنة والجبروت الذي يحكمنا به، كان لا بد أن نقبل بكل ما يمليه علينا بلا جدال أو مناقشة، أوامره مطاعة.. ورغباته مستجابة، زواجك مني كان إحدى رغباته، كان لا بد أن أقبل على مضض..! كان شعوراً قويا يلازمني بأنني سأفتقد الحس والإحساس معك. وليس لي أن أعارض أو أرفض، فالحب عند أبي خرافة، والزواج بمشورة الفتاة مهزلة وضعف إرادة).

(فماذا كنت تريدني أن أفعل.. الحب شيء لا أملكه..! لا تلومني).

قالتها بصوت تستنزف بحتة الخلجات.

أغمض عينيه وقد أظلمت الدنيا في عينيه.. مادت الأرض من تحته.. كانت قد صمتت، القهر يتفجر في داخله صدى الكلمات أنساه كل شيء هوى على الأرض كعجل صريع دس رأسه بين يديه المرتجفتين، وقد عجزتا عن حمله.

انهمر المطر بشدة.. أخذت قطرات الماء الكبيرة تخبط الأرض بشدة.. خيوط البرق تشقق ثوب السماء. الريح الباردة يتلقاها وجهه كالحمم.

الجو مشحون بسكون كئيب، حزن مأسوي تنفطر له الأفئدة. بدأ المكان موحشاً، رفع رأسه منتفضاً. وقال بصوت متهدج.

(أنت طالق.. طالق.. طالق).

فأجهشت بالبكاء.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة